في عصر لم يعد يُقاس فيه النفوذ السياسي فقط بالقوة العسكرية أو بالتحالفات الدبلوماسية، برزت الشاشة بمختلف أشكالها كأقوى أدوات التأثير غير المباشر في تشكيل صورة الدول. ما بين الإنتاجات السينمائية الضخمة التي تعيد كتابة التاريخ، والمقاطع القصيرة الريلز التي تُنتج وتُستهلك في ثوانٍ، تُرسم اليوم ملامح القوة الناعمة بذكاء بصري وسردي غير مسبوق.
الفنون البصرية لم تعد مساحة تعبير فردي أو صناعات ترفيهية محضة، بل تحولت إلى أدوات استراتيجية ضمن حقول الاتصال السياسي والثقافي، حيث تبني الجماهير انطباعاتهم الثقافية الأولى عن الدول من خلال ما يشاهدونه على الشاشات، سواء في قالب درامي طويل أو محتوى قصير على وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن مقاطع الفيديو القصيرة، رغم بساطتها، تُحدث تأثيرًا أسرع لدى المتلقي.
كوريا الجنوبية تُعد مثالًا لهذا التحول الذكي. فمن جانب، أنتجت دراما عالمية مثل (Crash Landing on Your Kingdom)، شكّلت بوابة لعشرات الملايين حول العالم لدخول الثقافة الكورية. ومن جانب آخر، ضخت الدولة استثمارات لدعم صُنّاع المحتوى الشباب على تيكتوك ويوتيوب لإنتاج محتوى قصير يُعزز رمزية الحياة اليومية الكورية: الشاي، الأزياء، التعليم، الطعام، والسلوك الاجتماعي. هكذا أصبحت كوريا لا تُصدر فقط مسلسلات، بل أسلوب حياة كامل، يتمتع بجاذبية تجارية وثقافية في آنٍ معًا.
في الولايات المتحدة، لم تعد هوليوود وحدها سيدة المشهد. فبينما تستمر في تصدير قيمها عبر السينما التقليدية، برزت الآلة الرقمية الأميركية خاصة عبر مقاطع اليوتيوب القصيرة والريلز على منصة الانستغرام كأدوات تأثير جديدة. المحتوى القصير الذي يُظهر نمط الحياة الأميركي، روح المبادرة، وحتى الفكاهة اليومية، أسهم في استمرار رسوخ الصورة النمطية في ذهن الملايين، دون حاجة إلى سيناريو مكتوب أو إنتاج ضخم.
أما في المملكة، فنعيش بفضل الله تحولًا لافتًا في استخدام الأدوات البصرية لصياغة سردية جديدة. من جانب، نتقدم في مجال إنتاج الدراما والسينما، كما في مهرجان البحر الأحمر، الذي يعزز صورة تشجع الفكر والإبداع والتنوع. ومن جانب آخر، إنتاج محتوى مؤثر قصيرة يعكس المجتمع السعودي والانفتاح الثقافي والاقتصادي من فعاليات متنوعة مع دخول مقيمين في إنتاج محتوى مؤثر عن الحياة الاجتماعية. هذه المقاطع القصيرة باتت تلعب دورًا مكملًا للمشروعات الإعلامية الأخرى، وتنقل الصورة الصحيحة بلهجة ناعمة وحديثة ومُتكررة.
الأهم في هذا التحول، أن الجمهور لم يعد يميز بين الرسمي والعفوي؛ فالمحتوى القصير قد يُنتج من شرفة منزل، لكنه إن حمل دلالة ثقافية أو سلوكًا مميزًا، صار أداة حقيقية لتشكيل الانطباعات، وهذا ما يجعل التفاعل لا يقتصر على أنماط انتاج محتوى بطابع مكلف، بل قد يبدأ من فيديو لا يتجاوز 30 ثانية، يُعاد تداوله ليحمل رسالة أكبر من حجمه الزمني.
في عصر تُبنى فيه الثقة والانجذاب الثقافي عبر الشاشات، تصبح الصورة أكثر من وسيلة تعبير؛ إنها أداة لتشكيل الوعي الجمعي. كل لحظة بصرية، مهما بدت عابرة، تحمل قدرة على صياغة معنى وترسيخ انطباع. وهكذا، تتحول اللقطة إلى هوية بصرية تُروى بذكاء وتُكرر لتعميق الأثر.