د.إدريس لكريني
لا تتوقف علاقات المغرب وموريتانيا على الجوانب السياسية والاقتصادية والجغرافية، بل تتجاوزها إلى علاقات اجتماعية وثقافية وتتميز هذه العلاقات بكونها متجذرة في التاريخ، وأفرزت إرثاً حضارياً مشتركاً أسهم فيه القرب الجغرافي والتفاعلات الاجتماعية. يوفر الجوار الجغرافي إطاراً لإرساء علاقات تعزّز التواصل بين الشعوب وتشكيل ذاكرتها المشتركة، ويبدو أن هناك استيعاباً من قبل البلدين وعلى أعلى مستوى للفرص التي يتيحها هذا الجوار على مستوى تعزيز التعاون والشراكات وهو ما أكده كل من الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني عند لقائهما في عام 2024. على المستوى التاريخي، أسهمت هجرة القبائل في المجال الصحراوي في تعزيز التواصل بين البلدين، فيما وحدت دولة المرابطين المنطقة من الصحراء نحو الأندلس، كما شكلت جامعة القرويين وجهة مفضلة لطالبي العلم من موريتانيا. وعلى المستوى الثقافي والديني، يتقاسم البلدان اللغة العربية واللهجة الحسانية والدين الإسلامي (المذهب المالكي)، علاوة عن الطرق الصوفية (الطريقة القادرية والطريقة التيجانية) التي تعزز التواصل الروحي وهو ما يعبر عن الهوية المشتركة بين شعبي البلدين. وعلى الحدود بينهما تعيش قبائل تربطها علاقات اجتماعية وعائلية وثقافية. وهناك مجموعة من العادات والتقاليد المشتركة التي تجسد المشترك بين البلدين، نجملها في قيم الكرم والضيافة المتأصلين في المجتمع الصحراوي وكذا فنون الطبخ واللباس التقليدي والأعراس، ثم التقاطع الحاصل بين الملحون والشعر الحساني، علاوة على القرابة القائمة بين عدد من العائلات المغربية والموريتانية. وتشير الوقائع إلى أن هناك عدداً كبيراً من الموريتانيين يزورون المغرب بانتظام لأجل الدراسة والعلاج والسياحة والاستثمار، فيما هناك عدد من المغاربة يزورون بدورهم موريتانيا بهدف التجارة أو لأغراض سياحية.. ثمة الكثير من المقومات التي تدعم إرساء شراكات متينة بين الجانبين، فهما بلدان مغاربيان، تجمعهما اللغة والدين والتاريخ الحضاري المشترك، والعلاقات الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى احتضانهما لثروات طبيعية وإمكانات اقتصادية، علاوة على الجوار الجغرافي وموقعهما الاستراتيجي وحضورهما معاً داخل عدد من الهيئات الإقليمية (كجامعة الدول العربية، والاتحاد المغاربي والاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي..) وزيادة على ذلك، فقد تطورت نسبة المبادلات التجارية بين البلدين، حيث أضحى المغرب هو المستثمر الإفريقي الأول في موريتانيا. كما أن تعزيز التعاون بين البلدين أصبحت تفرضه أيضاً الظرفية الإقليمية والدولية الراهنة بتحدياتها وتحالفاتها وكذا المخاطر التي تهدّد دول الساحل الإفريقي بتأثيراتها المحتملة على المنطقة المغاربية برمتها، خصوصاً وأن نشاط شبكات التهريب والجماعات المسلحة غالباً ما ينتعش على ضعف الروابط الاقتصادية والتجارية بين دول المنطقة. إن التنسيق بين البلدان المتجاورة هو مدخل أساسي لتحقيق التقدم والتنمية، كما أن تعزيز التعاون والشراكة بين الجانبين في إطار رابح-رابح وتقديم نموذج شراكة واعدة محفز لدول المنطقة يمكن أن يسهم في إرساء الأمن والاستقرار بالمنطقة ويضيق الخناق على شبكات التهريب والجماعات المسلحة، بل ويمكن لذلك أن يسهم في تذليل العقبات القائمة أمام تفعيل اتحاد المغرب العربي وتجاوز الهدر القائم في الوقت الراهن، بالإضافة إلى توحيد الرؤى بصدد عدد من الملفات والقضايا المشتركة إقليمياً ودولياً وإرساء قدر من التوازن في ما يتعلق بمخاطبة القوى الإقليمية والدولية (الهجرة إلى أوروبا، الشراكات مع أوروبا مثلاً) وكذا الاستئثار بأدوار وازنة داخل العمق الإفريقي الزاخر بعدد من الإمكانيات الاقتصادية والاستراتيجية، علاوة على كسب رهانات الاستقرار والأمن في المنطقة. ثمة الكثير من المداخل الكفيلة بتطوير وتعميق العلاقات بين الجانبين، فعلى المستوى الاقتصادي والتجاري، يمكن تشبيك العلاقات في مجالات الزراعة والصيد البحري، والصناعة والطاقات المتجددة ومدّ الطرق والسكك الحديدية بين الحدود وإعطاء دينامية استثمارية وتنموية للمناطق الحدودية وإحداث مناطق للتبادل الحر والانخراط معاً في إنجاح مشروعي المبادرة الأطلسية وأنبوب الغاز المغرب–نيجيريا. أما على المستوى الثقافي والاجتماعي، تبدو أهمية القيام بشراكات جامعية تتيح تبادل الزيارات بين الطلبة والأساتذة وتنظيم لقاءات فكرية وملتقيات رياضية مشتركة، إضافة إلى إنتاج مجموعة من البرامج الوثائقية والأفلام التي تتناول المشترك الثقافي والحضاري، وكذا إقامة ملتقيات ومهرجانات ثقافية وفنية مشتركة تتمحور حول التراث الحساني، ثم تشجيع السياحة الثقافية والترويج للمواقع التاريخية والثقافية في كلا البلدين كوجهات سياحية، بالإضافة إلى تشجيع المبادرات التي تعزز الروابط الاجتماعية بينهما من خلال الشراكات بين الجمعيات والهيئات الفنية والرياضية والثقافية والسياحية للشباب. كما يتطلب الأمر أيضاً تنسيق الجهود السياسية والدبلوماسية في التعاطي مع عدد من الإشكالات والتحديات كالهجرة والإرهاب وتعزيز جهود التنمية وعقد اتفاقيات التعاون والشراكة والتوأمة بين الجماعات الترابية في البلدين، إلى جانب تعزيز التعاون الأمني كسبيل لمواجهة مختلف التهديدات والمخاطر التي تواجه البلدين. يمتلك المغرب وموريتانيا شروطاً واعدة لتمتين التعاون وتحقيق مكتسبات اقتصادية واستراتيجية ويجسد الجانب الثقافي والاجتماعي والتاريخي منطلقاً مهماً على هذا الطريق والواقع أن هذه المهمة ليست مسؤولية الفاعل الرسمي بمفرده، بل هي مسؤولية جماعية يمكن أن يسهم فيها الإعلام والأحزاب السياسية والجامعات ومراكز الأبحاث والجماعات الترابية بالبلدين.