من قصص التراث العربي قبل الإسلام ما يروى عن النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، انه كان يصطفي نديماً له من بني عبس يقاسمه معاشه اليومي من طعام وشراب وسمر، ولأسباب خاصة حدثت قطيعة بين النعمان ونديمه العبسي الذي حاول بكل الوسائل
ان يعتذر وينفي ماقاله عنه الوشاة، الذي يهمنا من هذه الرواية هو بيتٌ واحد من قصيدة قالها النعمان مخاطباً نديمه للمرة الاخيرة:
قد قيل ماقيل إن صدقاً وإن كذباً…
فما إعتذارك من قولٍ اذا قيلا!!
هذا هو حالنا اليوم الذي بلغت فيه وسائل الاتصال اوجها، لكن هل من اللائق ان نأخذ بنظرية النعمان بن المنذر في الإعلام على علاّتها هل هي صحيحة على اطلاقها ؟
الجواب بالنفي فنحن نشهد بين الفَينة والأخرى ناطق باسم الرئيس الفلاني يصحح ماقاله رئيسه مستخدماً العبارة التقليدية "ان ماروي عن الرئيس قد انتزع من سياقه العام".
لكن هناك في عالمنا العربي ما يشذ عن ذلك، هناك من يجادل بأن المعلومة اذا صدرت من شخصٍ يتمتع بمكانة صحفية وسياسية واجتماعية مع كل ما ينطوي عليه ذلك من نفوذ فإنها تلقى رواجاً بين جمهرة القراء بصرف النظر عن طبيعة هذه المعلومة ويعزز ذلك اذا كان الشخص مصدر المعلومة ذا حَظوة عند أولياء الأمر.
هذه الصفات - يقول من يجادلني - تنطبق على الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله.
لقد عاصرت الأستاذ هيكل اثناء وجودي طالباً في جامعة القاهرة في النصف الاول من عقد الستينيات وهو حقبة لم تكن فيها العلاقات بين المملكة العربية السعودية و مصر على مايرام وشهدت كيف كان المرحوم كما يعلم الجميع أحد أهم الادوات الاعلامية في إذكاء نار الفتنة بين الدولتين.
لدي كتاب للأستاذ هيكل لا أظنه موجوداً في مكتبات مصر المعروفة ولم يحظ بالشهرة التي لاقتها مؤلفاته الاخرى لاسباب قد يكون أهمها ان الكتاب صدر باللغة الانجليزية وقد الفه المرحوم بعد وفاة الرئيس عبدالناصر بناءً على نصيحة من رؤساء تحرير بعض الصحف الانجليزية والامريكية.
الكتاب هو "عبد الناصر والعالم" ترجمه للغة العربية الاستاذ المعروف سمير عطالله لحساب دار النهار اللبنانية عام ١٩٧٢.
وهو سردٌ مشوق لعلاقة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعدد من الشخصيات الهامة من رؤساء الدول.
والكتاب من عدة فصول تصف علاقة عبدالناصر بعدد من زعماء العالم، مثل جون كنيدي وليندون جونسون وانطوني ايدن وخروتشوف ونهرو وتيتو، ومن غير الرؤساء جون فوستر دالاس وزير الخارجية الامريكية طيلة حكم الرئيس ايزنهاور،
وداج همرشولد ثاني امين عام للأمم المتحدة.
ويبدو ان الاستاذ سمير عطاالله قد بذل جهداً كبيراً في ترجمة الكتاب فجاء الاسلوب سلساً ناعماً لا يختلف كثيراً عن اسلوب هيكل. الكتاب في مجمله مادة دسمه لمن عاصر تلك الفترة ومصدراً ثرياً لمن يبحث في علاقات مصر مع العالم بعد ثورة ٢٣ يوليو، كما انه يلقي الأضواء على اسلوب الرئيس الراحل في ادارة البلاد طوال فترة حكمه رحمه الله.
غير ان في الكتاب مواقف تجعلني أظن ان الاستاذ هيكل قد تأثر بنظرية النعمان بن المنذر في الاعلام، اي انه قد اطلق العنان لقلمه فصار يكتب إن صدقاً وإن كذباً. ففي صفحة ١٥٢ في الفصل الخاص بعبد الناصر وايدن، يتحدث الاستاذ عن لجنة منزيس الخماسية التي تألفت بإيعاز من وزير الخارجية الامريكية دالاس لاقناع عبدالناصر بالعدول عن تأميم القناة والقبول بإدارة دولية.
تالفت اللجنه برئاسة روبرت منزيس رئيس وزرء استراليا وعضوية كل من وزراء خارجية ايران واثيوبيا والسويد ومندوب امريكي، ومعروف ان اللجنة عادت بخفي حنين لكن الذي يهمنا في هذا السياق هو ماقاله الاستاذ هيكل عن رئيس وزراء استراليا روبرت منزيس:
"وطول العشاء ظل منزيس يهمس في أذن عبدالناصر وظن الجميع انهما يتحدثان في امور مهمة تتعلق بالقناة، لكن الواقع ان منزيس كان يقلد احدى خطب تشرشل وقلد كذلك برنارد شو".
تصوروا رئيس وزراء دولة يأتي من اقصى الدنيا على رأس لجنة دولية عالية المستوى لنزع فتيل حرب قادمة ينقلب الى مهرج مهمته إدخال السرور على قلب ضابط لا تتعدى خبرته في العلاقات الدولية اربع سنوات.
وفي صفحة ٢٩٢ في الفصل الخاص بعبد الناصر وكنيدي يتحدث الاستاذ هيكل عن اليمن وعن الإمام البدر بالذات الذي خلف والده الامام احمد بعد وفاته.
يقول هيكل ان عبدالناصر كان محتاراً في امر البدر وكان يتساءل عما اذا كان بوسعه ان ينقل اليمن الى العالم الحديث الى ان طلب الإمام البدر ذات يوم ان يزور حديقة الحيوان في القاهرة، وهنا انقل بالنص ماقاله هيكل عن هذه الواقعة:
"وذهب البدر يرافقه وفد رسمي الى حديقة الحيوان حيث سار كل شيء على مايرام الى ان اكتشف البدر شجرة قات لم يتبينها احد غيره فهرع وصعد اليها وجلس على "غصن" منها واخذ يمضغ اوراق القات"
وبعد ان سمع عبدالناصر بهذه الواقعة لم يعد يتساءل عن طاقات البدر او قدراته!!
ومع ان الكتاب يحفل بعدد من الصور فإنه يخلو من صورة رئيس دولة يتربع فوق غصن شجرة قات وعما اذا كان هناك شجرة قات في حديقة حيوان الجيزة يتحمل احد اغصانها شخصاً بوزن الامام البدر والقصة مليئة بمضحِكات ابي الطيب بعد خروجه من مصر.
لقد ناقشت بعض الاصدقاء من اليمن الشقيق في هذه الواقعة فقالوا ان هذه واحدة من أرانب الاستاذ هيكل.
ولنكتفِ بهذا القدر لكنني صرت على يقين من ان الاستاذ يترك الحبل على الغارب لقلمه خاصة عندما يكتب عن الخليج وماقاله في الكتاب عن الملك سعود و عبدالسلام عارف رحمهما الله هو من هذالقبيل.
وللقارئ ان يحكم على صحة ماسميته نظرية النعمان بن المنذر في الاعلام:
قد قيل ماقيل إن صدقاً وإن كذباً. اي ان المعلومة اذا صدرت من شخص
ذي نفوذ ثقافي واجتماعي بين قومه فانها تكتسب الرواج بصرف النظر عما اذا كانت
صحيحة او من نسج الخيال كما هي أرانب الاستاذ هيكل رحمه الله.