السياسة الأميركية لم تكن يومًا ارتجالية، مهما بلغ سياسيوها من كاريزما، أو سطوة ناتجة عن نجاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ولم تكن السياسة الأميركية تجسيدًا خالصًا لسياسة حزب أو برنامجه. إنها السياسة التي تقوم على الدراسات الاستراتيجية العميقة. والأحزاب والرؤساء لا يشكلون اختراقًا كليًا لتلك الاستراتيجيات التي تعدها مراكز علمية بحثية متخصصة. فالأحزاب أو الرؤساء يطبقون تلك الإستراتيجيات بأساليبهم ورؤاهم وتوجهاتهم، وهذا ما يوحي بتمايز سياسة الأحزاب والرؤساء فيها. ومن غير شك هناك مساحة وهوامش واسعة للرئيس في تطبيق تلك الإستراتيجيات، تمنحه حرية الأسلوب، وتغيير أولويات تلك الإستراتيجيات وأهدافها بما ينسجم مع الظروف والمتغيرات الدولية.
فالسياسة الأميركية في جوهرها تقوم على صنّاع فكر سياسي، يلهمون صنّاع السياسة سياستهم، ويحمل تاريخ السياسة الأميركية أمثلة على تفرّد رؤسائها بسياسات، شكّلت منعطفًا تاريخيًا في السياسة الأميركية. لكن تلك الأمثلة تدل على تبني أولئك الرؤساء نتاج صناع الفكر السياسي، ولا نبخسهم حقهم بالصبغة الشخصية الإبداعية التي أكسبوها لذلك النتاج. وهذه الصبغة هي أساسًا تحفزها أفكار صنّاع الفكر، فالفكر السياسي الأميركي ليس مغلقًا على فكره، بل هو يفسح مجالًا للأساليب المبدعة في تجسيدها سياسيًا. وتلك الأفكار مفتوحة للإضافة والتعديل. وهذا سر تفوّق الفكر السياسي الأميركي، والمجال الحيوي للرؤساء في تطبيقها بطرق إبداعية.
سجّل تاريخ السياسة الأميركية أمثلة على مفكرين باتوا خالدين في ذاكرة السياسة الأميركية على سبيل المثال جيمس ماديسون: الصانع الأمهر لفكرة أميركا أمة متحضرة، متفوقة وفق ما أعدّه من دستور فتح لها هذا الأفق ولذلك أطلقوا عليه: "أبو الدستور الأميركي" وصانع فرادته.
وألكسندر هاميلتون مبدع فكرة الفيدرالية الحيوية، وأحد مؤسسي الحزب الفيدرالي الذي دعا إلى دولة مركزية قوية، مبنية على فيدراليات تشكل خصوصياتها دعمًا وتنوعًا يفيض قوة على المركزية.
أما بنجامين فرانكلين فأغنى أميركا والبشرية باختراعاته، ونظرياته التي جعلته باني الثورة الأميركية الحضارية، وأحد مبدعي سياستها في منعطفات تاريخية. فكان من مؤسسي قوة الولايات المتحدة. ومارس العمل السياسي بمواهبه الخارقة، فأسهم في صياغة إعلان الاستقلال، ونظام الحكم الأميركي الذي لا يزال يعمل به. فعمل وزيرًا، وأبرم معاهدة عام 1783 التي أنهت الحرب مع بريطانيا العظمى. ويروى أنه قال عن أميركا: "إن قضيتنا هي قضية البشرية جمعاء. نحن نناضل من أجل حريتهم حينما ندافع عن حريتنا."
وكان جون ديوي من أهم رواد الفلسفة البراغماتية، وقد أبدع في ضوئها تربية حديثة غيّرت اتجاهات التربية في أميركا والعالم.
وفي العصر الحديث ظهر مجموعة من المفكرين أبدعوا نظريات فكرية أصبحت مركز الإلهام الأول للسياسة الأميركية المعاصرة مثل صاموئيل هنتنغتون الذي قدّم نظريته المثيرة للجدل في كتابه "صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي". وفرانسيس فوكوياما الذي أتى بنظريته عن الصورة الحضارية الأخيرة للبشرية في كتابه "نهاية التاريخ وخاتم البشر".
لقد أدت نظرياتهما إلى فتوحات في التحول الحضاري للصراعات المستقبلية. ووجهت الصراع بناءً على نبوءاتهما الفكرية.
ومؤخرًا نشر المؤرخ الأميركي آرثر شليزنغر كتابًا بعنوان "دورات التاريخ الأميركي" قدّم فيه نظرية تقول: "يمر التاريخ الأميركي دومًا بدورات متعاقبة مدة كل منها عشرون عامًا، تبدأ بحرب، وتنتهي بكساد اقتصادي" وهو يريد أن يحذر الساسة الأميركيين من استمرارهم بهذه السياسات، وعليهم العمل بإعادة النظر في تلك الإستراتيجيات التي توجه السياسة الأميركية للتنقل بين كارثة الحرب وبين كارثة الاقتصاد.
إنَّ سر حيوية السياسة وقوتها، وقدرتها على التحكم بمستقبل العالم ومصير أممه، ناشئة من حيوية المؤسسات البحثية التي يصنعها صنّاع الفكر السياسي لا صنّاع السياسة، وفردية الدكتاتوريات، والتاريخ يشهد.