تاريخ العلاقات السورية–اللبنانية مليء بالتوترات والتقلبات، وكأن هذا الجوار الجغرافي والروابط الاجتماعية والثقافية لم تُترجم يومًا إلى شراكة متوازنة أو رؤية مشتركة للأمن القومي. اليوم، يبدو أن لبنان يعيد إنتاج دوره التاريخي السلبي تجاه دمشق، عبر خطاب إعلامي وسياسي معادٍ، ومحاولات التأثير في الداخل السوري بوسائل «الحرب الناعمة»، وتوظيف الساحة اللبنانية كمنصة للضغط على النظام السوري.
منذ استقلال لبنان عام 1943، كانت بيروت، في نظر دمشق، ساحة مفتوحة للمؤامرات والتحركات المعادية لسوريا. من الانقلابات العسكرية إلى الاغتيالات السياسية، كانت معظم التحولات الكبرى التي طالت دمشق تُطبخ في بيروت، أو على الأقل تمر عبرها.
هذه الحقيقة دفعت سوريا، منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد انقلاب 1970، إلى انتهاج سياسة «تحصين دمشق عبر لبنان»؛ فدخلت قواتها إلى الساحة اللبنانية عام 1976 بذريعة منع انهيار لبنان، لكنها كانت أيضًا تحاول إغلاق أي منفذ يُستخدم ضدها من البوابة اللبنانية.
رغم كل الأزمات الداخلية التي يعيشها لبنان، من الانهيار المالي إلى الوضع الاقتصادي المتردي، إلى عدم الاستقرار السياسي، هناك تصاعد واضح في لهجة بعض القوى اللبنانية تجاه دمشق، سواء في ملف اللاجئين السوريين، أو عبر الحملات الإعلامية المنظمة التي تحاول تشويه النظام الجديد. وأصبحت بعض الأطراف اللبنانية تتعامل مع دمشق وكأنها خصم دائم، بتأثير من حزب الله والمحور الإيراني، متجاهلة أن الاستقرار بين البلدين مترابط بشكل مصيري.
سوريا، التي عانت من حرب مدمّرة منذ عام 2011، ما زالت تلتزم بسياسة ضبط النفس تجاه لبنان. لكن استمرار الاستفزازات قد يدفع دمشق لإعادة النظر في علاقاتها، وربما تبنّي سياسة أكثر حزمًا، خصوصًا أن توازن القوى في المنطقة يشهد تحولات كبيرة مع انخراط دول الخليج والولايات المتحدة وتركيا في دعم الملفات السورية.
التطاول اللبناني الراهن على دمشق ليس مجرد ردّ فعل عابر، بل هو امتداد لسياسات تاريخية فاشلة استخدمت لبنان كمختبر لتصفية الحسابات الإقليمية. دمشق تدرك هذا جيدًا، وقد تصبر الآن، لكنها لن تنسى. وأيّ ردّ فعل سوري، ولو تأخّر، قد يُغيّر ملامح العلاقة بين البلدين لعقود مقبلة.
لبنان يعود اليوم إلى لعب الدور الذي اشتهر به تاريخيًّا كمنصة لاستهداف دمشق، وكأن التجارب السابقة لم تترك أي درس. الحملات الإعلامية اللبنانية والخطابات الموجّهة ضد سوريا، واستخدام أدوات الحرب الناعمة لزعزعة استقرارها، ليست سوى نسخة جديدة من سياسات قديمة اعتادت دمشق مواجهتها منذ الاستقلال.
بيروت كانت دائمًا بوابة التحولات الكبرى التي طالت سوريا، من الانقلابات العسكرية في خمسينيات القرن الماضي، إلى محاولات عزل النظام السوري في مراحل لاحقة. ولولا قناعة دمشق بأن أمنها القومي يبدأ من لبنان، لما اتخذت قرار الدخول العسكري والسياسي العميق إلى الساحة اللبنانية عام 1976، لحماية ظهرها ومنع أي قوة إقليمية أو دولية من تحويل لبنان إلى منصة تهديد مباشر لها.
دمشق، رغم كل ما مرّ به شعبها من حرب طاحنة وتمزقات وانقسامات منذ عام 2011، ما زالت تمارس ضبط النفس تجاه بيروت، لكنها تدرك أن استمرار الاستفزاز لن يبقى دون ردّ.
إن تكرار الدور السلبي للبنان ضد دمشق ليس سوى إعادة إنتاج لفشل تاريخي؛ فكل مرة جرى فيها استعداء سوريا، دفع لبنان الثمن مضاعفًا. واليوم، إذا استمرت بعض الأطراف اللبنانية في التمادي والخضوع لأجندات خارجية تستهدف سوريا، فإن الرد السوري قد يأتي أقسى وأبعد من المتوقع. العلاقة بين البلدين ليست خيارًا سياسيًّا يمكن التلاعب به؛ هي مسألة أمن قومي وتوازن استراتيجي لا يملك لبنان رفاهية العبث به.