بدءًا من اليوم 24 تموز (يوليو)، بعد اجتماع بكين وبروكسل للاحتفال باليوبيل الذهبي، بمناسبة مرور خمسين عاماً على سير الاثنتين في طريقٍ دبلوماسي مملوء بالرمل الاقتصادي والقليل جداً من الحصى الإيديولوجي، سنعلم فيما إن كانتا ستضيفان البُعد السياسي في سرديَّة العلاقات بينهما، وبالتالي تغيير سرديَّة القوى العظمى في إيجاد الحلول وتعريف الأزمات العالمية.
العاصمتان تقفان اليوم عالمياً وهما تُعطيان ظهرهما لبعضهما في قضايا عديدة، وتمسكان بالمواقف المختلفة في النظر إلى تلك القضايا كمسدسات مُبارزة، مثل الحرب الدائرة في أوكرانيا، الموقف من موسكو، والتعريفات الجمركية التي تريد الولايات المتحدة فرضها على الجميع، كمحاولة لمنع الاتحاد الأوروبي والصين من الوصول إلى تسوية معقولة، تُقلِّل قيمة الضغوط الأميركية على الأداء السياسي والاقتصادي لكليهما.
قُبلة استراتيجية أم مساومة أوروبية بالمسدسات الأميركية؟
الاثنتان تجتمعان وهما تعلمان بأنَّ قُدرة "الحياد" الأميركية التي ساعدتها على أن تكون بوليصة تأمين للخصوم قد انقرضت. ما فعله الرئيس ثيودور روزفلت بإنهاء الحرب بواسطة هذه القُدرة بين روسيا القيصرية واليابان الإمبراطورية في العقد الأول من القرن العشرين، ما عاد ممكناً في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي سيكمل ستة أشهر في البيت الأبيض يوم 28 تموز (يوليو). الولايات المتحدة في عهده قوة سوبر عظمى بالتعريفات الجمركية لا بالسياسات الخارجية.
بكين إن لم تُعاون بروكسل على رمي العُكَّاز الأميركي في سياساتها الخارجية، ستظل الأخيرة، وعلى أقلّ تقدير، عرجاء اقتصادياً مع الصين وتسير كشبحٍ استراتيجي في العالم بقدمين أميركيتين. لكن القارة العجوز التي تعاني من قُصر النظر العالمي بسبب الحرب الدائرة بين موسكو وكييف، وبُعداً تكتيكياً يُصيبها بالراحة عند النظر إلى الشرق الأوسط، لاعتمادها على عدسات تل أبيب في غزة، طهران، لبنان، ودمشق "مدينة السويداء"، مما يُشعرها بأن الحِوار الجدّي مع الصين مهم لكنها تؤجِّل ذلك إلى إشعارٍ آخر ينتظرُ خروج رأسٍ واضح للصين في أزمات العالم السياسية.
نتنياهو مثلاً، وفي يوم 23 تموز (يوليو)، سرَّب خبراً مفاده "قُرب انطلاق مشروع التنمية والازدهار" عبر قناة الرابعة عشرة الإسرائيلية الموالية له. هذا المشروع هو البديل الأميركي لطريق الحزام والطريق الصيني. تحليل الخبر يوضِّح لنا أنه جاء لأغراض نتنياهو الانتخابية، وحوار القبضات الذي تقوده الولايات المتحدة بلسان ترامب مع بروكسل وبكين. أما الفكرة التي يعتمدها بيبي فهي تذهب بنا للقول إن الشرق الأوسط عجين واليدين إسرائيل. أتركُ للقارئ تصور المقولة الأميركية الخاصة بالصين من العجين الإسرائيلي.
هناك أيضاً، وعلى بُعد أربعة أيام من 24 من تموز (يوليو)، مؤتمر "حل الدولتين" بإشراف اليمامة السعودي والإليزيه الفرنسي. كان المفترض عقدُ هذا المؤتمر في 17 - 20 حزيران (يونيو) الماضي، لكنَّ إسرائيل شنَّت الحرب قبل الموعد بأربعة أيّام أيضاً. البيانات التحضيرية السابقة للمؤتمر أقرَّت بضرورة أن تكون إسرائيل طابوقة في بيت النظام الأمني للشرق الأوسط. طبعاً، إسرائيل خرجت من الحرب وهي تُريد أن تكون حجر الزاوية في هذا النظام، تحت إشراف "بيت هاناسي"، مقر الحكومة الإسرائيلية. كذلك، فإن طقطقة مفاصل السويداء السورية يوم 12 تموز (يوليو) كانت رسالة إسرائيلية أخرى لأوروبا بأنها لن تحصد نفعاً ولا أمناً من ازدياد الحصَّة العربية في السياسات العالمية.
سفرجل إيراني وجزر إسرائيلي
الإيرانيون دخلوا في المعادلة قبل يوم من تسريب نتنياهو، يوم 22 تموز (يوليو)، عبر قناة فوكس الأميركية. حديث وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قام بتنحيف وزن ورقة الأذرع الإيرانية في صنعاء مروراً بلبنان وصولاً إلى بغداد؛ أي أنها لن تضع ورقة المليشيات على طاولة مفاوضاتها. الأهم قيامه بمحاولة نسف كل المقولات التي تعتمد عليها تل أبيب في مقاولاتها الأمنية مع واشنطن وبروكسل، كاستخدام الشيطان الأكبر والأصغر. عراقجي، وباختصار، عرض على واشنطن كل السفرجل الإيراني بدل الجزر الإسرائيلي - غزة والسويداء كأمثلة - الذي يبدو مكلفاً أمنياً واقتصادياً. طالب حصراً بإبقاء مقومات الفخر القومي الإيراني، وعدم المساس بالبرنامج الصاروخي، متعهداً على الشاشة بأنه سيعمل كرادع دفاعي لا لسياسات نفوذ في المستقبل.
جميع القوى العظمى لديها ما تربح وما تخسر بعد الغد. مقدار الربح والخسارة سيخرج من عباءته لأنه سيوفر لنا الأجوبة على بعض الأسئلة المهمة: ماذا ستربح أوروبا إن اتفقت مع الصين اقتصادياً؟ وهل فوائد الاتفاق تعوِّضها عن الافتراق الاقتصادي النسبي مع الولايات المتحدة؟ وهل موسكو مستعدة لمعاونة بكين في إقناع الأوروبيين بإيجاد حل ممكن في أوكرانيا؟ وهل يمكن للصين عرض جنوب شرق آسيا كمنطقة فرص أوروبية بدل أن تبقى مقيَّدة بالصراعات الجيواستراتيجية للولايات المتحدة؟ وهل هناك فرص للشرق الأوسط بأن يكون شريكاً حقيقياً لأوروبا بعيداً عن طقطقة الكاميرا الإسرائيلية باستخدام آلية "الأقليات المفيدة" التي ذكرتها في مقالي السابق، وتحديد موعد نهائي لتطبيق حل الدولتين المثالي لجميع التوازنات العالمية؟
حل الدولتين، على الأقل، ليس مطاطاً مع فترة السيولة الاستراتيجية الحالية للعلاقات بين مختلف القوى العظمى.
الدول العربية في الشرق الأوسط عليها هي الأخرى أن تُجيب بكل صدق في تخطيطها للمستقبل الممكن فيما إن كانت جميعها أو كل مجموعة منها تتبنى رؤية شبه موحدة، تكون قادرة في نهاية المطاف على إقناع القوى العظمى بأنها تستطيع تسجيل أهداف الاستقرار الأمني والمساهمة في نمو العالم الاقتصادي، بعيداً عن أهداف التسلُّل الإسرائيلية في مرمى لبنان، اليمن، سوريا، واحتمال انضمام العراق قريباً. إن لم تستطع، فالحُكّام في المباراة ليسوا من اتحاد الفيفا، والغرب شئنا أم أبينا يرانا محطات وقود ضخمة وممرات للتجوال الجيواستراتيجي، فلا يخدعننا تململه من هذا الموقف الكلاسيكي، إذ إن إسرائيل تعرضُ عليه يداً طويلة وبصيرة قصيرة للمنطقة العربية.