: آخر تحديث

بين الشاشة والورق

5
7
6

يُعد تحويل الأعمال الروائية إلى أفلام سينمائية أحد أبرز أشكال التداخل بين الفنون، حيث يلتقي الأدب بالسينما في تجربة غالبًا ما تثير جدلاً نقديًا وجماهيريًا على حدّ سواء، فبين صفحات الرواية وسيناريو الفيلم مساحة من الإبداع، لكنها كذلك مساحة محفوفة بالمخاطر، قد ترتقي بالنص الروائي إلى آفاق جديدة، أو تهدم الكثير من بنيانه الفني والمعنوي، فالرواية فن قائم على التخييل واللغة، ومنح القارئ فرصة لتشكيل عوالمه الخاصة، حيث صوت البطل، ملامح الشخصيات، طيف الأمكنة، وحتى إيقاع المشاعر… كلها تُبنى في ذهن القارئ من خلال الكلمات، أما الفيلم، فهو فن بصري أولًا، يُحدد بالصورة ما كان مفتوحًا على التأويل، ويُقدّم المشهد والمعلومة والزمن بشكل محدد لا يقبل التخييل الحر ذاته الذي تمنحه الرواية وحين تُحوّل رواية إلى فيلم، فإن ذلك يتطلب جملة من التعديلات أهمها: اختصار الزمن، وحذف بعض الأحداث أو الشخصيات، وإعادة ترتيب الوقائع، وربما تغيير بعض النهايات لتناسب الرؤية السينمائية أو طبيعة الجمهور، وهنا تبدأ التساؤلات حول مدى وفاء الفيلم للنص الأصلي، ومدى مشروعية هذه التحويرات، قبل أيام كنت أتابع فيلم البؤساء المأخوذ من رواية فيكتور هيجو التي تحمل ذات الاسم بالطبع، وكنت قد قرأتها منذ زمن بعيد فأدركت يقيناً أن الرواية والفيلم جنسان مختلفان في التعبير، فالأول يعتمد على اللغة والبناء النفسي الداخلي، بينما الثاني تقوم على الصورة والحوار والحركة، ولذلك، ليس من الضرورة أن تكون الرواية الجيدة فيلمًا جيدًا، والعكس صحيح، ففي بعض الحالات، يكون التحويل السينمائي سببًا في شهرة الرواية وانتشارها عالميًا، حينما تمنح القارئ البعد البصري، في المقابل، هناك أعمال أدبية ضخمة فشلت عند تحويلها إلى أفلام، إما لأن المخرج لم يلتقط جوهر النص، أو لأن الرواية احتوت من العمق والتفصيل ما لا يمكن اختزاله في ساعتين من العرض، غير أن كثيرًا من صنّاع السينما لا يدركون هذه الفوارق، فيقعون في فخ «نقل» الرواية بدل «تحويلها»، أو يسعون لتسويق اسم الرواية فقط دون الحفاظ على روحها، وهنا تأتي مسؤولية المخرج والسيناريست في أن يحترموا العمل الأصلي، لا بنقل كل حرف فيه، بل بفهمه وتأويله بذكاء فني يعترف بالاختلاف بين الوسيطين، ويستثمره لصالح المعالجة الجديدة، من جهة أخرى، هناك روايات من طبيعتها البنائية والفنية ما يجعل تحويلها إلى فيلم مغامرة صعبة، مثل الروايات التي تعتمد على السرد الداخلي أو تعدد الأصوات أو اللغة الرمزية الكثيفة، فهل تستطيع الصورة أن تنقل صوتًا داخليًا مشحونًا بالتأمل؟ أو أن تجسّد نصًا يقوم أساسًا على شعرية اللغة؟ في آخر الأمر، تحويل الرواية إلى فيلم ليس مجرد «نقل محتوى»، بل هو عمل إبداعي مستقل، يجب أن يحمل احترامًا للمصدر وجرأة في المعالجة، دون أن يقع في السطحية أو التسطيح، كما أن الحكم على نجاح هذا التحويل لا يُقاس فقط بعدد التذاكر أو نسب المشاهدة، بل بقدرة الفيلم على الإبقاء على جوهر الرواية وروحها، حتى وإن اختلف الشكل فالعلاقة بين الرواية والسينما، حين تتم بعناية واحتراف، تثمر أعمالًا عظيمة تتقاطع فيها الكلمة مع الصورة، وتُقرّب الأدب من جمهور أوسع، دون أن تُفرّط بقيمته، أما حين يغيب هذا التوازن، فإن الخسارة تكون مزدوجة جمهورٌ لم يفهم الرواية، وفيلمٌ لم ينجح أن يكون فنًا قائمًا بذاته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد