علي عبدالله الأحمد
في قلب تيرانا، لم يكن اللقاء بين زعيمين فحسب، بل كان عناقاً بين وفاءٍ ووفاء، بين رجلٍ لم يعرف حدوداً للعطاء، وشعبٍ لم ينسَ يداً امتدّت إليه في العسر.
وقف إيدي راما، رئيس وزراء ألبانيا، يخاطب ضيفه الكبير، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لا بلسان السياسة وحدها، بل بكلمات القلب ونداء الذاكرة. قالها من دون تكلّف: «أنت لست ضيفاً على ألبانيا... بل أنت أخٌ في زمنٍ عزّ فيه الإخاء»، وتذكّر راما، وقد اغرورقت عيناه، جراح الزلزال في 2019 فقال مخاطباً الشيخ محمد «لن أنسى أبداً تلك اللحظة عندما جئتُ إليك بعد الزلزال... وأمسكت بيدي وقلت: «أخي، أنت وشعبك لستم وحدكم».
ولعل أكثرنا لا يعرف إلا القليل عن ألبانيا، وثقافتها فمن هم الألبان؟
على الخريطة، قد تبدو ألبانيا كأنها همسة بين صخب الجغرافيا البلقانية، بقعة صغيرة تحيط بها دول أكبر وأكثر نفوذاً. ولكن من يعرف ألبانيا حقاً، يدرك أنها لا تُقاس بمساحتها، بل بعناد شعبها، وجمال جبالها، ودفء روحها التي قاومت العزلة، وتغنّت بالحرية، وتشبثت بالكرامة حتى في أحلك عصورها.
كانت ألبانيا دائماً، كما وصفها الروائي الكبير إسماعيل قادري، «أرضاً تقاوم النسيان». في رواياته، تتحوّل الجبال إلى رموز، والصمت إلى صوت، والتاريخ إلى مرآة تعكس شجاعة شعب لم يتهاون في الدفاع عن أرضه، كان قادري يكتب عن الوطن كما يكتب العاشق عن محبوبته الغائبة - بكل الحنين والخوف والأمل.
في مطلع القرن العشرين، زارت الرحّالة البريطانية إديث دورهام ألبانيا ودوّنت ملاحظاتها بدهشة الأم التي اكتشفت أبناءها فجأة. كتبت تقول:«شعب ألبانيا، بأزيائه الجبلية، فقره النبيل، وكرمه الفطري، يُذكّرك أنك في حضرة أمة حرّة حتى في قيودها». هذا التناقض الجميل - بين الفقر والكرامة، العزلة والكبرياء - هو ما يجعل من ألبانيا تجربة إنسانية عميقة لا مجرد بلد على حدود المتوسط.
الجبال، التي تمتد كقصائد من الصخر، ليست مجرد تضاريس جغرافية. إنها أعمدة روحية حمت هوية الألبان، كما لو كانت جبال الألب الشمالية تهمس لهم: «اثبتوا». وهناك، في القرى المعزولة، حيث الزمن يسير على إيقاع وصدى الأناشيد الشعبية، وُلدت القصائد التي حملت الروح الألبانية إلى كل منفى وكل ساحة حرية.
ورغم أنها كانت واحدة من أكثر الدول عزلة في العالم في ظل حكم إنفر هوكشا، إلا أن ألبانيا لم تنكسر. بل خرجت من عزلتها كالعنقاء من رمادها، تبني نفسها بروح جديدة، وتسعى بثبات نحو الاتحاد الأوروبي. وكما قال رئيس وزرائها إيدي رامَا مؤخراً:«ألبانيا ليست ضيفاً في أوروبا. نحن جزء من هذه العائلة، لا بالأرقام فقط، بل بروحنا، بثقافتنا، بتاريخنا من أجل الكرامة».
إنها كلمات تحمل طموح أمة لم تسمح لصِغَر مساحتها أن يحدّ من امتداد رؤيتها.
ليس غريباً أن تجد في ألبانيا مآذن تتناغم مع الكنائس، وأغاني شعبية تروي ملاحم عن الشرف والمقاومة، ونساء يخبزن الخبز كما لو كنّ يصلين. في هذا التداخل بين الحداثة والحنين، تكمن شخصية ألبانيا الفريدة: دولة تعرف كيف تحافظ على جذورها حتى وهي تطمح إلى السماء.
وقد كتب أحد الشعراء:
«أن تكون ألبانيّاً يعني أن ترقص على حافة السكين من دون أن تنزف،
أن تؤمن بالحرية حتى لو لم تجدها،
وأن تصنع بيتاً من الحجر والقصائد».
ألبانيا، الدولة التي لا تفرض نفسها، لكنها لا تختفي. التي لا تملأ الشاشات، لكنها تملأ القلب. الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بأحلامها. لا تصرخ، لكنها تُسمَع. لا تتوسل، لكنها تستحق. من جبال سكاندربيرغ إلى شواطئ البحر الأدرياتيكي، ومن قصائد قادري إلى ابتسامات الأطفال في تيرانا، ثمة ما يقول لك إن ألبانيا ليست بحاجة إلى كثير من الضجيج كي تترك أثراً خالداً.
إذا كان هناك من دروس تُستقى من هذه البلاد، فهي أن العظمة لا تُقاس بعدد السكان، ولا بالمساحة بل بقدرة الإنسان على أن يحلم، ويحافظ على كرامته، ويحمل وطنه في قلبه كأنّه بيتٌ لا يُغلق.
نعم، ألبانيا دولة صغيرة. لكن أحلامها... أكبر من جبالها.