: آخر تحديث

زيتونة فلسطينية تناجي ياسر عرفات

2
3
3

في السادسِ من شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 1988، ألقَى ياسر عرفات كلمةً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمقر المنظمة في جنيف، بعد أن رفضتِ الولايات المتحدة منحه تأشيرة دخول إلى مقرها في مدينة نيويورك. تعاطف العالم بشعوبه وحكوماته مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي يقودها ياسر عرفات، وتمَّ التفاهم بين أمانة منظمة الأمم المتحدة وأعضائها بأن يُعقد الاجتماع في مقر الأمم المتحدة الأوروبي بجنيف.

دخل أبو عمار قاعة الاجتماع الأممي، «واثق الخطوة يمشي ملاكاً»، كمَا كانَ يكرّر من حين إلى آخر. الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، والمطربة كوكب الشرق أم كلثوم، وأمير الموسيقى رياض السنباطي هم حداته في رحلته الطويلة التي طوى فيها الأرض والزمان طيّاً. الشاعر إبراهيم ناجي عطَّر خطواتِ الحبيب الواثقة، برشَّة خيلاء ملكية، لكنَّ الثائرَ أبو عمار عاشقَ قضيته، ألبس خطواتِه رفرفةَ الملاك (وليس الملك). فهو واثق الخطوة يمشي ملاكاً. نعم، للثورة خطواتها كما لها سلاحها وصوتها. كانَ قرار المنع الأميركي لياسر عرفات من الحديث من أعلى منبر الأمم المتحد بنيويورك عقوبة له على إعلانه قيام الدولة الفلسطينية في اجتماع قادة منظمة التحرير الفلسطينية بالعاصمة الجزائرية، والانتفاضة الفلسطينية التي هزَّت الكيان الإسرائيلي. دخل عرفات قاعة الأمم المتحدة بجنيف، بخطوات ملاك مقاتل، يقود معركة مضادة للعدوان الإسرائيلي. خاطب عرفات العالم بقصيدة نثرية أبدعها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. في جنيف السويسرية ومنها رفرفتِ الثورة الفلسطينية على غصن الزيتون الفلسطيني بصوت ملائكي يعانق السلامَ، يزفُّه مسدس لا يفارق حزام صوفي الوجدان الثائر.

كلمات مسبوكة بلغة سُكبت فيها شحنة من وهج الطموح إلى السلام، وصلابة إرادة الكفاح المسلح. قال ياسر عرفات موجهاً خطابه إلى أمم العالم: «لقد جئتُكم بغصن الزيتون في يدي، وبندقية الثائر في يدي، فلا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي».

الزيتونة شجرة مباركة زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور. رفع ياسر عرفات غصن النور الهادي للسلام وهو يخوض معركة على جبهة عالمية التأم فيها ممثلو الأمم؛ رداً على قرار المنع الأميركي من دخوله إلى الولايات المتحدة. تلك الجملة البليغة، التي ملأتها حمولة إنسانية ناطقة للسلام، وإرادة صلبة للكفاح من أجل الحق والحرية حضرت فيها زيتونة النور الفلسطينية المقدسة.

ياسر عرفات حمل على كاهل حياته الطويلة المناضلة رموز القيم الفلسطينية المُجسّدة لقضيته. مسدسه الذي لم يفارق حزامه، وكوفيته التي صارت لوحة إبداعية ناطقة بالوجود الفلسطيني أرضاً وشعباً ومعاناة. الزيتونة الفلسطينية سكنت ياسر عرفات وسكنها، حباتها تهب زيت الحياة، أصلها ثابت في الأرض، وأغصانها تهب النور. في موسم جني ثمرها ينطلق موسم الاحتفال الجماعي ويتحلّق الكبار والصغار حولها.

تلك هي فلسطين التي حملها عرفات وشاركها مع بني وطنه في رحلة كفاح طويل. جنح الفلسطينيون إلى أمل السلام، وكانت أوسلو محطة أولى في منعطف حاد. بدأت معركة أخرى.

في 13 سبتمبر (أيلول) سنة 1993 جرت في البيت الأبيض مراسم توقيع اتفاق أوسلو للسلام، بين ياسر عرفات وإسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل. أثناء ترتيب إجراءات الاحتفال أراد عرفات أن يحملَ معه مسدسه الرفيق العزيز. لكن ذلك رُفض بشدة، اقترح أن يحمله من دون رصاص، لكنَّه رُفض أيضاً. قبِل عرفات وصافح رابين وبيريز من دون أن يكون معه رفيقه المسدس. غاب السلاح وبقيت الكوفية، ولاح غصن الزيتون. في الخضم الطويل العنيف الذي عاشته القضية، قُتل إسحق رابين، العسكري السياسي الذي شارك في المعارك الإسرائيلية ضد العرب والفلسطينيين. سقطت بقتله ورقات من غصن زيتون ياسر عرفات السويسري الأممي. بقيت الكوفية شهيق وزفير وطن فوق رأسه، والزيتونة تكوين متجذّر في الأرض، تهدي للناس زيت الحياة.

سنة 1996 تولى بنيامين نتنياهو، رئاسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، ومعه فريق يعيش في غابة من الوهم المدرع. حواسهم مجنزرة وعقولهم حقول متفجرات. عيونهم لا ترى أرض فلسطين، ولا تسمع آذانهم صرخات شعبها. في غزة الإبادة للبشر والدمار للحجر، والضفة الغربية تُقضم أرضها بسياسة قفزة الضفدعة. استيطان الأرض واقتلاع زيتونها.

سقط غصن الزيتون يابساً ودُفن مع قبور الآلاف من الضحايا. كلّ زيتونة اقتلعتها آلة الموت تناجي حزينة رمزها الذي رحل قبلها قتيلاً، وتقول لم تعد لنا أغصانٌ نرفعها للسلام، أو حبات سوداء من زيتوننا نطعم بها بطون حياتنا. أخذوا منك بندقيتك ثم حياتك، وها هي أغصاننا تتكدَّس يابسة في قبور جماعية على امتداد مساحة الضفة الغربية. تهمس زيتونة أخرى، كوفيتنا خريطة مزرعة، بقعها السوداء أنفاس في كيان أرضنا، ونحن أرتال الحياة ترتوي من النور المقدس، والكوفية باقية؛ فهي رئة النفس المقدس، فهي الغصن الأسطوري الذي لا يمر، وهم العابرون في كلام عابر. ذلك هو غصن محمود درويش الذي لا يذبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد