محمد خليفة
الحرب شكّلت وتشكّل عالم الظلمات، كما أنها تؤثر سلباً في كينونة الإنسان في ظل المتغيرات الزمنية وبالتفاصيل الإنسانية، في تحدٍ صريح لكل ما هو من شأنه تهديد الوجود الإنساني. وأخطر كارثة تواجهها البشرية عندما تتحطم القيم الأخلاقية وتضطرب الأمور ويتفشى الشر ويلبس الحق بالباطل. وكأن العالم يعيش في عصر البدائية ويتقنع بأقنعة الديمقراطية والرأسمالية الليبرالية، ومع ذلك تتداخل جميع الأحاسيس وعواطف الشر المادي بفعل العنف وصدام القيم، في فوضى من تجاريد مشوشة لا معنى لها، لا نجد غير ما يدعو إلى اليأس وإشاعة التشاؤم الذي هو استنكار صارخ لإرادة الحياة، والذي لا ينطبق مطلقاً مع أفعال الفطرة البشرية. فالألم والقتل والتدمير أصبح الرغبة الأكثر تأثيراً على الناس، لتطرح الأسئلة المخيفة وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان، نتيجة عالم ذي صلة وثيقة بعالم اللاشعور أو اللاوعي، إنه عالم الأشرار الذين يفسدون في الأرض والتاريخ الإنساني من خلال إشعال الحروب في مشهد بائس يسلب الإنسان خصائصه. فالأعمال الشريرة ترتكب في الأرض وترعب مساحات الظلم في الحياة الإنسانية، ففي كل لحظة تشهد الدنيا ما لا حصر له من وقائع القتل والظلم والتجويع والإجحاف والاستغلال والخداع والغدر. إذا كان الناس يتظالمون فيما بينهم بهذه الكثافة الخانقة وبشتى الطرق، لا ينظرون إلى أفعالهم بوصفها أفعالاً ظالمة وإنما يعدونها أفعالاً دفاعية تقتضيها المصلحة ويوجهها العقل دون حرج أو شعور بالذنب إحساس بمعاناة الآخرين، كما هو حاصل في غزة، حيث يموت الأطفال جوعاً ولا يجد الناس ما يسدون به رمقهم، وكأن لسان الحال من لم يُقتل بالقنابل سيقتله الجوع. غزة تحولت إلى مجمع من نفايات القنابل ورفات آلاف الجثث، بعد أن جعلوها ساحة للموت، وتحولت الأرض إلى خراب عظيم. أحداث التاريخ وحقائق الواقع تؤكد أن مرتكبي الفظائع غالباً ما يبررون أفعالهم أو يختلقون المبررات لأفعالهم، نتيجة التحيزات السياسية والإيديولوجيا المتطرفة وانحراف في القيم الإنسانية. وهذه من طبيعة المستبد الذي لا يجد صعوبة في حشد الناس لتنفيذ ما يهواه من دون رادع من قصف بالطائرات والمدافع والصواريخ وكل الأسلحة، حتى المحرمة دولياً، وكل الوسائل لتدمير المستشفيات ودور العبادة، وحرق الأخضر واليابس، أو التسبب بفظائع لا حصر لها بما يجلب على الإنسانية من الشرور والمظالم وأنواع القهر والفقر والبؤس ما يفوق قدرة الخيال. حيث إن الطاغية تتجسد في إطار شخصية إيديولوجية تحت نوع من الانفلات ك«الستالينية» التي مارسها ستالين كوسيلة وحيدة للبقاء في السلطة، عند ذلك يبدأ التخبط في دياجير النرجسية والضياع في سراديب انفعالية عمياء هوجاء وترتطم بالتلاشي والزوال تحت مطارق الجحيم، وتكون النهاية البوار والفناء. إنها سنة الله على مدار الأزمان، أن تذهب نظرة إنسان قاصر محدود العمر، يسير بخطى ثابتة نحو مصيره المحتوم، نحو موت مؤجل ولو إلى حين، وكل وجود هو وجود مقدر له الموت، مع أن التعليمات الأخلاقية والدينية منذ فجر التاريخ، إنما تهدف إلى جعل الخير هو القيمة العليا في المجتمعات البشرية. لكن تنازع البقاء والسعي للسيطرة على الموارد، كان ولايزال سبباً للطغيان وظهور المظالم. ومن غير الممكن الحديث عن المظالم التي حدثت عبر التاريخ، لكننا نرى أمثلة لها في مجتمعاتنا المعاصرة التي من المفترض أنها حصلت بمجموعها على العلم عبر الجامعات، وتشكُّل وعي جمعي عالمي، والذي جسده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ببنوده العديدة التي تنص في مجملها على إرساء الحرية الكاملة لكل إنسان في مختلف بلاد العالم، من حيث الحق في الحياة وحرية المعتقد والعمل إلى غير ذلك. وقد انقسم العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين نهجين غربيين مختلفين في الوسائل، للوصول إلى غاية واحدة وهي تحقيق الفضيلة والخير وهما: النهج الشيوعي، والنهج الرأسمالي، ولا شك أن النهجين فيهما شيء من الظلم، نتيجة الأحوال والظروف المتغيرة للعقل البشري. وتبع ذلك الفتنة على القيم واعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، إزهاق الروح وإعدام الحياة والشقوة البائسة المنكودة التي لا تزيلها الحضارة المادية ولا الرخاء المادي، حرب القلق والخوف، خراب النفوس، ومن ثم تجد الشقاء والحيرة والاضطراب، إنها فترة تتمثل اليوم في كل مناهج السلوك السياسي، التصورات والقوانين والأوضاع وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا هدف ينطوي على تصغير الإنسان مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني، وحرمان الإنسان من حياته الشاملة، إذ يفرض عليه تحديات للقتال في الحروب، يحرمه الموت من عمره بعدما يواجه أنواعاً عديدة من الألم، والأخطر ألم الوجود والذي يكشف عن ألم غير مرئي أو محسوس عندما يفقد الأقرباء والمجتمع، وهو أمر يزداد في مراحل الانتقال التاريخي لدى الذات الإنسانية، يدفع إلى طريق الآلام المعبّد بمشاعر المعاناة. إن تأصيل ثقافة التسامح كفيل بوأد فتنة الحرب، وتغليب لغة الحوار سبيلاً لبناء جسور الثقة للعيش المشترك في سلام وأمن يعم العالم.