في خضم التوحش الإسرائيلي المستمر ضد قطاع غزة، حيث تتراقص أشلاء الأبرياء على أنغام القصف المتواصل، وتتآكل مقومات الحياة تحت وطأة الحصار الخانق، تتجلى صورة أخرى من صور الصمود والمقاومة في الضفة الغربية المحتلة، وإن كانت بصيغة مختلفة. فبينما يواجه أهل غزة آلة الحرب الصهيونية بصبر أسطوري وتضحيات جسام، يخوض أهل الضفة معركة لا تقل شراسة، معركة ترتبط بقوت يومهم وصحتهم وكرامتهم، معركة ضد غول الفساد والغش الذي يحاول أن ينخر في عظام مجتمع أنهكته عقود من الاحتلال والظلم.
إنَّ مشهد قوات الأمن الفلسطينية وهي تصادر بضائع تحمل ملصقات مزيفة في محال نابلس، وتُتلف آلاف الكيلوغرامات من المنتجات الفاسدة في أسواق بيت لحم ورام الله، ليس مجرد خبر عابر في زاوية صحفية. إنه صرخة مدوية في وجه واقع مرير، حيث يستغل البعض ضعف الرقابة، أو ربما تواطؤها في بعض الأحيان، لتحقيق مكاسب غير مشروعة على حساب صحة المواطن الفقير الذي لا يملك ترف الاختيار في كثير من الأحيان، فالملصقات المزيفة لا تعني فقط تضليلًا للمستهلك، بل هي غش واضح قد يُخفي منتجات رديئة أو مقلدة لا تحمل أي مواصفات صحية أو جودة، مما يُعرض حياة الناس للخطر المباشر. أما المنتجات منتهية الصلاحية، فهي سم بطيء يُقدم على موائد الأسر، يفتك بصحة الأطفال والكبار على حد سواء، ويُضاف إلى قائمة الأمراض التي يعاني منها مجتمع تحت الحصار.
هذا الغش والتزوير لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية. فالحرب المستمرة على غزة، والتصعيد اليومي في الضفة الغربية، والضغوط الاقتصادية المتزايدة، كلها عوامل تُلقي بظلالها على الوضع المعيشي، وفي ظل هذا الجو المشحون، يرى البعض في هذه الفوضى فرصة سانحة لتحقيق أرباح سريعة، متجاهلين كل القيم الأخلاقية والوطنية، وهذا يُظهر الوجه الآخر للمعاناة؛ فبينما يواجه الفلسطينيون قمع الاحتلال من جهة، يواجهون استغلالًا داخليًا ينهش في ما تبقى لهم من قدرة على الصمود.
المسؤولون الأمنيون الذين أكدوا على استمرار هذه الحملات، يُدركون بلا شك أن هذه ليست مجرد معركة ضبط أسواق، بل هي جزء لا يتجزأ من معركة أكبر للحفاظ على المجتمع الفلسطيني ونسيجه. فصحة المواطن هي ركيزة الصمود، وارتفاع تكاليف المعيشة بسبب الغش والتلاعب يزيد من إحباطه ويُفقده الثقة في مؤسساته. لذا، فإن الإجراءات الحازمة، والتنسيق بين الأجهزة الأمنية والرقابية، باتت ضرورة قصوى لا تحتمل التأجيل، يجب ألا تقتصر هذه الحملات على الصوادر والإتلاف، بل يجب أن تمتد لتشمل ملاحقة الرؤوس الكبيرة التي تقف وراء هذه الشبكات، ووضع قوانين رادعة، وتفعيل آليات رقابية صارمة تضمن عدم تكرار مثل هذه الممارسات.
إنَّ ما يجري في أسواقنا هو انعكاس لحالة أوسع من التحديات. فالحرب الإسرائيلية على غزة مستمرة بلا هوادة، ومعها تتصاعد معاناة أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين تحت القصف والتجويع. المشهد في رفح، وما تتعرض له المدينة من دمار وقصف لا يتوقف، يضع القضية الفلسطينية برمتها على المحك. وفي الضفة الغربية، تتزايد اقتحامات المستوطنين، وتُصادر الأراضي، وتُهدم البيوت، مما يُغذي حالة اليأس والإحباط. في ظل هذا المشهد، تصبح الحاجة إلى الوحدة الداخلية، والتماسك الاجتماعي، وتطهير البيت الفلسطيني من أي شوائب، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالعدو يستفيد من أي ضعف داخلي، وأي فساد ينهش في جسد المجتمع.
إنَّ مسؤولية مكافحة هذه الآفات لا تقع على عاتق الأجهزة الأمنية وحدها، بل تتطلب تضافر جهود جميع الأطراف: من السلطة الفلسطينية بوضعها تشريعات رادعة وتطبيقها بحزم، إلى المؤسسات المدنية بنشر الوعي بين المواطنين بحقوقهم، وصولًا إلى المواطن نفسه الذي يجب أن يكون العين الساهرة على سوقه وحياته. إن بناء مجتمع فلسطيني قوي ومتماسك في الداخل هو أفضل رد على محاولات الاحتلال لزعزعة استقراره وتفتيت وحدته. فكما أن صمود غزة يكسر شوكة الغطرسة الإسرائيلية، فإن صمود الضفة في معركتها ضد الغش يبني أساسًا صلبًا لدولة فلسطينية قوية وذات سيادة، دولة قادرة على حماية أبنائها وتوفير العيش الكريم لهم.