كل إمبراطورية مرّت من هنا، لم ترحل تمامًا، غبارها في الهواء، وخرائطها في الجيوب، وخناجرها في خواصر الجغرافيا، الإغريق، الرومان، المغول، العثمانيون، الاستعمار… لم يغادروا، بل استعارهم العصر بأسماء جديدة.
في هذا الشرق المحكوم بالقلق، لا تترسخ الخرائط إلا بالرماد، ولا تُرسم الحدود إلا بالدم القاني، منذ آلاف السنين والمنطقة تتأرجح بين مدّ وخراب، بين لحظات ازدهار وجولات استباحة، وكأن الهدوء فيها ليس ثمرة توازن، بل استراحة محارب قبل الجولة التالية من الفوضى.
في الحزام الناري لهذا الشرق الأوسط، تتقاطع لعنة الجغرافيا مع هشاشة السياسة، وتتشابك الهويات مع الدم، فلا تستقر بنية، ولا تكتمل دولة، ولا تنجو فكرة من الاستنزاف، فالتاريخ هنا لا يُكتب بالحبر، بل يُنسج بالدم، ويُتداوَل بالرماد.
ليست المشكلة أن هذه المنطقة عرفت الغزاة، بل أن الغزاة عرفوها، وأدركوا مكامن ضعفها، ثم سلّموها من بعدهم إلى أتباع محليين يتكلمون لغة أهلها ويهدمونها بأيديهم، فكل مرحلة جديدة تأتي محمّلة بأيديولوجيات مستعارة، لا تنبت من الأرض بل تُزرع فيها قسرًا، مرة باسم الخلافة، ومرة باسم القومية، وثالثة تحت راية المقاومة، ورابعة بحجة العدالة الاجتماعية، وخامسة متخفية بثياب الدين، تتغيّر الرايات، لكن المذبح لا يتغيّر.
وهكذا، أصبح الشرق الأوسط مختبرًا لآيديولوجيات مهجّنة، لا تعود إلى جذور شعوبه، بل إلى مختبرات الخارج، تُدار من فنادق مؤتمرات، وتُبثّ عبر قنوات ممولة، وتُزخرف بلغة الثورة لتُغطّي على مشروع الفوضى، وكلما فشلت واحدة، جرى استبدالها بغيرها، وكأن السكان مجرد حقل تجارب، ومصائرهم ملاحظات هامشية في تقرير المرحلة.
الاستقرار هنا لا يُنتج من رحم الدولة، بل يُستعار لفترة مؤقتة، ثم يُسحب إذا تجاوزت الدولة المرسوم لها، وما أن تتجرأ دولة على حماية نفسها، حتى تُتَّهم بالرجعية، ويُحرَّض عليها الداخل قبل الخارج، الفكرة أن تبقى الدول مُنهكة، مشغولة بجغرافيتها، متوترة في هويتها، لا تعرف إلى أي معسكر تنتمي، ولا كيف تحمي نفسها من الداخل أو الخارج.
وبدلًا من الاعتراف بعقم هذا الواقع، تنغمس النخب في أداء مسرحيّ مكرور، يلوّح دومًا بـ"مآتم المظلوميات"، حيث تتكرر الوجوه، وتُعاد الخطب، وتُوزّع الدموع في نشرات الأخبار كما تُوزَّع الخُطب في الجنازات، شعوبٌ تُساق إلى حفلات عزاء وطنية موسمية، لتبكي على أطلال مجازر لم تتوقف، ثم تعود إلى صمتها المعتاد.
الخطير أن هذه المظلوميات لا تتحوّل إلى مطالب للكرامة أو الوعي، بل تُستخدم وقودًا لخطابات التخدير والتبرير، كل فشل هو نتيجة مؤامرة، وكل خراب هو ضريبة صمود، وكل مأساة هي شهادة شرف، أما المواطن، فهو متهم دومًا بأنه لم يفهم الرسالة، ولم يصبر بما فيه الكفاية، ولم يبذل ما يكفي من الدم ليكتمل المشهد.
في هذه البنية، تصبح الدولة مشروعًا مؤجلًا، والمواطن ضحية مؤبدة، السلطة لا تحكم، بل تهيمن، والمعارضة لا تراجع، بل تُكفّر، والفكر لا يُنتَج، بل يُستورد من مقابر الإيديولوجيات القديمة، ولهذا حين تسأل الناس عن الوطن، يجيبونك بقائمة شهداء لا بمشاريع حياة، وحين تسألهم عن المستقبل، يخرجون دفاتر اللاجئين لا خرائط التنمية.
وفي خضم هذا التيه، تُستنزف الدول القليلة التي اختارت بناء استقرارها الداخلي بعيدًا عن الاستنزاف المزمن، يُنظر إليها كأنها "القلعة الآمنة" التي يجب خرقها لا احترامها، ويُحمّل على ظهرها كل فشل الغير، ويُراد منها أن تموّل الخراب، وتُوفّر المأوى، وتُقدّم التنازلات، ثم تُشتم لاحقًا لأنها لم تضحِ بما يكفي.
وهكذا، يخرج من بين الركام من يرفع راية التوسل، لا كنداء إنساني، بل كخطة ممنهجة، تنظيمات إرهابية متطرفة، وأحزاب عقائدية عقيمة، وأنظمة فاسدة لا تحترف إلا الاسترزاق باسم القضية، والابتزاز باسم الأخوّة، والتسول السياسي كمنهج، من لم يدفع لهم، يتهمونه بالخيانة، ومن لم يخضع، يهددونه بالاغتيال أو باختطاف طائراته، إنه عصر جديد، لكنه مأهول بأدوات قديمة، الفرق الوحيد أن المجرم لم يعد يهرب بجريمته، بل يُفاخر بها على الهواء مباشرة.
في هذا السياق، تضيع اللحى بين "حانا" و"مانا"، تتعدد الجهات التي تزعم تمثيل "الحق"، حتى لا يبقى للحق وجه يُعرف، وبين من يزايد باسم المقاومة، ومن يتاجر باسم القومية، ومن يصنع رجولة مصطنعة في غرف عمليات استخباراتية، يُخترَع للشرق شاربٌ جديد في كل مرة، حتى فقدت الوجوه ملامحها، وضاعت لحاهم في الزحام الرمزي، ولم يبقَ من الرجولة سوى شوارب مرسومة في خيال الطامحين.
الخلاصة أننا لسنا أمام صراع حضارات، ولا صراع أديان، بل أمام صراع على الذاكرة، هناك من يريد لهذا الشرق أن ينسى تاريخه كي يُعاد تشكيله، ومن يسعى لتفريغه من وعيه كي يُملأ بالهتاف، أما الذين يدفعون الثمن، فهم أولئك الذين يفتّشون عن وطن في زمن صار فيه الوطن مجرد لافتة إعلامية، تُرفع حينًا وتُطوى حينًا آخر.
الاستقرار لن يولد هنا ما لم يُفطم عن رحم الوصاية، لن يُنتَج ما دام العقل مستعارًا، والهوية مستأجرة، والخطاب مدبلج، أما أن يُولد، فذلك حلم يبدأ عندما نتوقف عن استعارة أوهام الغير، ونبدأ في قول الحقيقة… ولو مرة.