أحبّ قراءة الحوارات، المطوّلة خاصة، مع الأدباء والمبدعين عامة، وأحبّ أكثر محاوريهم الأذكياء. ليس كل من يجرون هذه الحوارات أذكياء ومطلعين كفاية على تجارب من يحاوروهم، لذلك تكون حصيلة ما يجرونه من حورات باهتة ولا تضيف جديداً، فيما المحاور الذكي قادر على استدراج الأديب، أو المبدع، إلى فضاءات أرحب، ربما ما كان هو نفسه سيفكر فيها أو يقف عندها لولا الأسئلة التي وجهها له المحاور.
إجابات من تجرى معهم الحوارات الذكية تأخذ بأيدينا، نحن معشر القرّاء والمتلقين، إلى تفاصيل تفيدنا في أن نفهم بصورة أفضل ما قرأناه لهم وما سنقرأه، وتقودنا إلى ما يطلق عليه ينابيع الكتابة: كيف استقى الكاتب فكرة رواية ما من رواياته؟ هل من حافز بعينه حمله على كتابة تلك الرواية بالذات؟ هل من شخصيات واقعية صادفها في الحياة ألهمته فكرة الكتابة عنها أو حولها أو من وحيها؟ إلخ.
يحدث أن يجمع بعض من أجروا حوارات متعددة مع كتّاب ومبدعين مختلفين حواراتهم في كتاب، فيقدّموا للقرّاء مادة ثرية، تتيح لهم تطوافاً واسعاً في عوالم مختلفة وتجارب متعددة، وتعود عليهم بالإمتاع والفائدة. هذا ما فعلته الكاتبة المصرية هالة البدري في كتابها «غواية الحكي» الذي جمعت فيه مجموعة حوارات مع أدباء مصريين وعرب، وما فعله أسامة الرحيمي في كتابه «بوح المبدعين» الذي فعل فيه الشيء نفسه، وغيرهما كثيرون.
ويحدث أيضاً أن ينتقي مترجم نابه مجموعة حوارات مع مبدعين من بلدان وثقافات مختلفة، فيترجمها إلى لغة بني قومه، ميّسراً لهم بانوراما ثقافية غنية، يصعب عليهم الوصول إليها لولا هذا النوع من الانتقاءات. ومثال ذلك ما فعله الكاتب اللبناني عصام محفوظ في كتاب «عشرون روائياً يتحدثون عن تجاربهم»، وما فعله الكاتب المغربي محمد آيت لعميم في كتاب «كاتبٌ لا يستيقظ من الكتب» جمع فيه حوارات عميقة وثريّة مع أدباء ومفكرين ترجمها إلى العربية.
بين يديّ الآن كتاب صغير الحجم عنوانه «حرائق السؤال» من ترجمة محمد صوف وأصدرته دار «أزمنة»، حوى حوارات مع أربع قامات أدبية: بورخيس، أمبرتو إيكو، روب غرييه، لورنس داريل. وعلى صغر حجم الكتاب، فإنه، هو الآخر، يتيح لنا التعرف إلى جوانب لا نعرفها وقد لا نكون قرأنا من قبل عن تجارب هؤلاء وعلى ألسنتهم.
في الكتاب، قال إيكو، المشتغل أساساً بالتنظير النقدي، إنه كتب الرواية حين أراد أن يقول شيئاً إضافياً لا يستطيع أن يقوله بدقة ووضوح في الخطاب النظري، فيما قال محاور لورنس داريل له بأن كتابته رحبة فيما حديثه مقتضب، وإن شخصيته مرحة لكن هذا المرح لا يتجلى في أدبه. اكتفى داريل بالرد: «أعتقد أني خجول».