: آخر تحديث

بعض التفاصيل المبهمة والخفية تحتاج إلى كشف

4
4
4

حسن اليمني

قلت لصاحبي: إنها فكرة رائعة مربحة بمكسب عالٍ وجهد صغير لا يحتاج إلى رأس مال، انتظر صاحبي متعجبا لتوضيح أكثر، أردفت موضحا: ننشئ مؤسسة تنظيم مواقف سيارات، نتفق مع جهة معينة ونوظف مواطنين سعوديين بأجور زهيدة لتوقيع المخالفات على موظفي ومراجعي هذه الجهة ومن الحصيلة ندفع للعاملين والباقي ربح دون جهد، ما رأيك؟

قال صاحبي وهو ينظر إلى عيني بدهشة وابتسامة خافتة: إنها فعلا فكرة رائعة لو لا أنها تبدو احتيالية إلا برأس مال كافٍ لتوريد وتركيب مكائن تحصيل لأجرة المواقف ولوحات إرشادية وتنبيه وإدارة متابعة ومراقبة وإدارة مالية وكذلك إدارة قانونية للوصول للعمل الآمن سواء في الاتفاق مع الجهات المستهدفة أو اعتراضات وشكاوي المتضررين من ذلك، وليست بتلك السهولة كما تفضلت، سارعت بمقاطعته قائلا: توقف... سنحصل على رأس المال من إيرادات العمل حين نبدأ فعلا، ونخصص جزءا للاحتياجات الضرورية بشكل متدرج ولا حاجة للاستعجال، لنأخذ الأمر بيسر وسهولة، لا تقل إن هذا عمل غير منطقي أو أنه تجاوز أو تحايل على الأنظمة والقوانين، هذه المبررات يا أخي مجرد عراقيل تحارب الفكرة الإبداعية المبتكرة للاستثمار دون رأس مال، وتذكر أن كل ما علينا القيام به هو الاتفاق مع جهات عمل لخدمتهم في ترتيب مواقف السيارات لديهم حتى دون أي كلفة عليهم وهذا أمر سيبدو جيدا ورائعا بالنسبة لهم: أليس كذلك؟

ذات يوم شوهد عدد من السيارات في فناء جهة عمل وقد تم تقييد أحد عجلاتها والجميع بين رجال ونساء مواطنين ومقيمين وربما زوار وسياح الكل في حيرة واندهاش مما يحدث، أصوات تعترض وأخرى تحتج وثالثة تبحث عن مسؤول والكل يسترق النظر في الآخر لعله يعطي تفسيرا لما يحدث، لا أحد يدري وشمس الصيف في الظهيرة ساخنة بدرجة عالية تجعل الألسنة تجف وتعجز عن مواصلة التساؤل والاستفسار.. لما لا توجد إشارة ممنوع الوقوف.. يتساءل أحدهم، امرأة في متوسط العمر تحلف وتقسم أنها لم تتجاوز عشر دقائق وآخر.. وآخر.. فجأة وبعد ساعات يظهر شخص يتقدم إليهم ويعرف عن نفسه أنه المشرف، والكل يتجه إليه وتتخالط الأصوات متحلقين حوله بين متفائل وممتعض ومتشائم ليسارع المشرف في تبيان حل هذه الواقعة بإصدار قراره النهائي غير القابل للنقاش بالأمر بدفع قيمة سبعة أضعاف المخالفة المرورية للوقوف الخاطئ ليتسنى فك قيد مركبته - نعم صحيح الدفع فوري وحالا - ودون اعتراض أو نقاش وبطريقة «تدفع يعني تدفع».

قيمة المخالفة المرورية للوقوف الخاطئ مائة ريال حسب نظام جهاز المرور واللازم دفعه هنا سبعمائة ريال وهو أمر مبالغ فيه إلى حد كبير جدا، ثم إن تسجيل المخالفة لا تكون إلا على مخالفة فعلية وفوق هذا للمخالف حق الاعتراض وله أكثر من ذلك مهلة من الوقت للسداد، ثم من هي هذه الجهة العظمى التي تفرض الأتاوة جبرا وفورا، وبأي سلطة ومن أين هذه السلطة، كيف تكون مخالفة على ركن المركبة داخل فناء جهة عمل للمراجعة دون اشعار أو تنبيه ولا حتى منع من الوقوف أو الدخول، لا بل إن حتى بعض المعاقبين في هذه الواقعة هم موظفون في هذه الجهة وهي مقر عملهم، شيء لا يصدق ولا يستقيم مع منطق أو عقل، السؤال الطائر الشارد المحلق الحائر في العقول المصدومة في هذا الجمع هو عمن هي الجهة المعنية لردع مثل هذا الفعل للالتجاء إليها، لا أحد يعلم، هناك من اتصل بالمرور وسجل بلاغا دون أن يستجيب المرور، وهناك من حلف وأقسم باليمين أنه لا يملك قيمة هذه المخالفة فقيل له ابحث عمن يسلفك من ماله، وهناك من يحاول إيقاظ وعيه وكأنه تحت كابوس من العجب والغرابة غير مصدق لما يحدث، ولكن أيضا هناك من لم يهتم بالأمر أصلا ودفع المبلغ دون أن ينطق بكلمة وكأن لسان حاله يقول «برستيجي» لا يسمح لي بأن أظهر بمظهر الحريص على ماله أو مبررات الدفع وكأني من هؤلاء المتخلفين، وهذه مع الأسف ظاهرة ترف سلبية تظهر ضعف المواطنة وضحالة في الوعي والتحضر لدى البعض.

قال صاحبي: ما هذا الذي يجري كيف يمكن ذلك؟ أليس هذا نوع من أنواع الاحتيال المنظم بل يبدو لي المشهد كقطاع طريق.. قاطعته حتى لا يستمر في نثر مزيد من كلام الفضائل والأخلاق والانضباط الذي يحد من سعة الإبداع والابتكار في فنون التحايل والنصب المطور وما إلى ذلك من قوالب الصح والخطأ، وهي أمور نسبية ووجهات نظر مختلف عليها والعمل تحت ظلها معطل عن الكسب السريع قائلا: لا تنزعج أخي فهذه من بعض تحديات التجارة الحرة ومن المستحسن تجاهلها.. لا تخشى من غضب هؤلاء المنزعجين فحين تصل مساءلة ذات يوم من جهة رسمية سنغلظ لهم الإيمان أننا سنتدارك الأمر ونصحح الخطأ بل سنعاقب المقصر والمتسبب بهذا، ثم أضفت: دعني أيضا أقل لك إنه ومن هذا اليوم وإلى أن تستيقظ تلك الجهة المعنية سنراكم الربح والكسب واستغلال وجود باحثين عن العمل من الطلاب والطالبات الذين رفضتهم الجامعات لضعف درجات القدرات والتحصيلي أو أنهم لا يجيدون اللغة الإنجليزية.. نعم إنها فرصة رائعة لشراء شبابهم وقوتهم واستهلاكها تحت أشعة شمس الظهر ببعض مئات من الريالات ونأخذ منهم موارد بالملايين، أوليس هذا تطبيق قولهم التجارة شطارة، فقط قليل من الجرأة على الحق في ظل سماحة العدل ورزانة حركة دوران عجلة التحري والدقة سيعطي وقتا وسيعا يدر لنا كثيرا من الأرباح.

بكل أسف مفهوم أن مثل هذا التمثيل متواجد في بعض مفاصل أخرى مختلفة نتيجة ضعف الوازع الوطني وخص من بعض أفراد الناس في المساهمة في خدمة الوطن وخطط التنمية والترقية والتطوير التي تهتم به القيادة الكريمة وتسابق الزمن للوصول به إلى أعلى درجات الضبط والانضباط في الإجراءات والسلوك، هذا التهاون والضعف في الحرص على أداء الواجب يؤدي إلى بقائه واستمراره دون تصحيح، وربما نراه في جهات أخرى.

أليس فرض الدفع من الفرد لشركة شحن ليس لتوصيل هذه الخدمة للمستفيد بل لأقرب فرع لهذه الشركة وعليك أن تذهب أنت لتسلمها، أليس هو الآخر شبيه خارج من ذات الرحم المستهين بحق الفرد - فعن ماذا وعلى ماذا إذن تدفع كلفة التوصيل طالما أنه لا يتم التوصيل أصلا بقدر ما هو فقط تغيير مكان التسلم وليس أكثر - وقد لا يتسع الوقت لحصر أشباه هذه التفاصيل المبهمة أو الخفية وبقائها واستمرارها حتى الآن دون ظهور وقفة جادة لحماية وصيانة حقوق الأفراد والنيل من قوتهم ومعاشهم وخلخلة تلاحم الأسرة وإيذائها في أدق مفاصل حياتها، وإن كانت بالتأكيد غير متعمدة وآثار غير محسوبة بأكثر من محاولات السعي والحرص لتجويد ضبط الالتزام بالنظم والإجراءات، لكن يغيب عن بعضها سعة قراءة الأبعاد الاجتماعية وحساسة موازنتها وآثارها العكسية والسلبية.

إننا بفضل من الله ثم حرص القيادة الكريمة لا نشتكي من فقر في قوة البحث والمساءلة وتحري الدقة وحفظ الحقوق، ولكن بذات الوقت نشتكي من البطء والتردد في كشف مثل هذه الأخطاء من قبل الأفراد ذاتهم مواطنين ومقيمين نتيجة ضعف المبادرة والتراخي الأناني عن أداء الواجب الوطني في التبليغ والكشف عنها للجهات المعنية، وقد يعود ذلك في كثير منه لجهل الفرد في ماهية هذه الجهة المنوط بها مواجهة مثل هذه الأعمال أو التهيب من مواجهة جهات ذات قوة، بما يجعل الإذعان والدفع خيارا أسهل للفرد، وخاصة أولئك غير القادرين على المتابعة واستهلاك الوقت والجهد لتبيان الجوانب السلبية التي يمكن تحاشيها بترقية تقدير حق الفرد.

لهذا فإن الكشف عن مثل هذه المنغصات التي تمس عامة الناس من رحم أخطاء أو غفلة استناد على الثغرات المبهمة والخفية في بعض الإجراءات التنظيمية أو تلك الإجراءات المقصود بها تطوير وترقية الضبط واحترام النظم حين تغفل عن قيمة وأهمية قوت الفرد ومعاشه وقدرته بدلا من البحث الجاد في ضبط إجراءات التطوير والترقية ذاتها ومن ذاتها لتصحيح عثرات إجراءاتها، لا شك أنه مفيد وخادم للصالح العام وعمل وطني واجب، ولعل أقل ما يمكن أن يقال إزاء بعض هذه المفاصل إنها غير موفقة، ولنأخذ إجراء إيقاف الحساب البنكي للمخالفة المرورية كمثال، فبدلا من إيقاف وتعطيل الحساب البنكي للفرد الذي من خلاله يودع فيه معاشه وقوت أهله كان الأصح أن يتم تحديد حد رصيد المخالفات المرورية بإيقاف رخصة السياقة وسحب المركبة في أول مخالفة بعد تجاوز الحد ليكون بذلك العقاب من جنس العمل - على حد علمي فان هذا معمول به في دول أخرى - وكذلك إيقاف أو سحب ترخيص أي منشأة تتجاوز النظم والتشريعات على حساب حق الفرد في ماله ووقته، ولا يمكن لعاقل أن يقول إن سداد مخالفة مرورية أهم وأولى من شراء دواء لمريض أو توفير رغيف خبز ولو بريال واحد لسد جوع أسرته، الحساب البنكي للفرد في حياته بمنزلة الرئة في جسد الإنسان وإيقافه للفرد لن يقتصر أثره على ذات الفرد وحده بل يمتد إلى أسرته بمختلف أعمارهم وحاجاتهم سواء كان كبيرا في السن لا يعيش إلا بأنبوبة أوكسجين أو رضيعا لا يعيش إلا على حليب يبتاع من الصيدلية بمبلغ يؤخذ من رصيد الحساب البنكي فماذا والحساب من أجل مخالفة مرور تتم مصادرة ما فيه وحرمان صاحبه من التصرف، ألهذه الدرجة أصبح سداد المخالفة المرورية فوق الاعتبار الإنساني وفوق هذا تتسع لتشمل المخالف وأهله ومن في رعايته!

بالمختصر المفيد إننا بحاجة إلى تجويد حماية حق الفرد من الاجتهادات الخاطئة وإعلاء التأنيس فيها باعتبار حق الفرد مقدس لا يجوز المس به إلا من خلال مجالس التشريع العليا الذي حدد القضاء لذلك، وبالطبع لا قضاء دون تقاضٍ، بمعنى أنه في حال الحاجة لضبط وتفعيل النظم والإجراءات وتطويرها علينا أن نتجه في المعالجة إلى تعديلها وتصحيحها بها ومن داخلها وفي إطارها - وهو المسار الصحيح - وليس باختيار أسهل الطرق من خلال تصحيح أثر الخطأ أو النقص في الإجراء إلى الاستهانة بحق الفرد في قوت يومه ومعاشه وكأنه حق مشاع لكل جهة لترتيب وتنظيم أعمالها وتصحيح أخطائها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد