في منطقة تتبدل معادلاتها كل يوم، وتتشابك فيها مصالح اللاعبين الكبار والصغار، تبدو إسرائيل وكأنها تكتب سيناريوهاتها الأمنية والسياسية بقلم يرتجف من القلق، وعين تراقب كل شرارة قد تشتعل على حدودها أو في عمق محيطها. هناك محاور أساسية ترسم ملامح هذه المرحلة، وتكشف عن عقل إسرائيلي يدير معركة باردة وساخنة في آنٍ واحد، لكنه في الوقت ذاته يسعى لإمساك العصا من المنتصف، متردّدًا بين المبادرة والانغلاق، وبين الاندماج الإقليمي والعمل الأحادي غير المنسّق.
الحدود الشرقية: الأردن وسوريا – خطوط النار المؤجّلة
إسرائيل لا تتعامل مع حدودها الشرقية كجغرافيا ساكنة، بل كخط تماس مفتوح على كل الاحتمالات. هشاشة الجنوب السوري ليست مجرد تفصيل عابر، بل مصدر قلق استراتيجي، خاصة مع تمدد الميليشيات الإيرانية. التنسيق مع الأردن هنا ليس خيارًا دبلوماسيًا بقدر ما هو ضرورة أمنية. لكن إسرائيل، رغم إدراكها أهمية الشراكة مع عمّان، كثيرًا ما تتصرّف بشكل منفرد، متجاهلة أحيانًا حساسية الموقف الأردني، ما يضع التعاون على المحك ويكشف عن رغبة إسرائيلية في السيطرة دون شراكة حقيقية.
الخليج: من السر إلى العلن – نفوذ يتسلل بهدوء
تدرك إسرائيل أن الخليج اليوم ليس خليج الأمس. الاتفاقيات العلنية والصفقات الخفية مع دول الخليج فتحت أمامها نافذة نفوذ جديدة، لا تقتصر على الأمن، بل تمتد إلى التكنولوجيا والاقتصاد. إيران هنا ليست فقط خصمًا مشتركًا، بل ذريعة لتبرير شراكات لم تكن ممكنة قبل سنوات. ومع ذلك، تسعى إسرائيل للاندماج في المنطقة دون تنسيق حقيقي أو تفاهمات عميقة مع دول الخليج، بل تفضّل أحيانًا المبادرة المنفردة التي تخدم مصالحها أولًا. حرب الإثني عشر يومًا ليست مجرد مناورة عسكرية، بل رسالة سياسية بأن إسرائيل لم تعد ضيفًا ثقيل الظل في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه لا تتردّد في فرض أجندتها دون مراعاة أولويات الشركاء الجدد.
المسألة الفلسطينية: الغائب الحاضر في معادلات إسرائيل
رغم كل محاولات إسرائيل لتجاوز المسألة الفلسطينية أو تهميشها في خطابها الإقليمي، تظل القضية الفلسطينية في لبّ التوجه العربي والخليجي. فمهما بلغت التفاهمات الأمنية أو الاقتصادية مع بعض دول الخليج، يبقى حل القضية الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة إلى جانب إسرائيل شرطًا أساسيًا لقبولها لاعبًا طبيعيًا في المنطقة. تجاهل إسرائيل لهذا الملف ومحاولتها القفز فوقه لا يعكس فقط قصر نظر استراتيجي، بل يضعها في مواجهة مع المزاج الشعبي العربي، ويحدّ من فرص اندماجها الحقيقي في الإقليم. فالدول العربية، وعلى رأسها الخليجية، تدرك أن أي تسوية إقليمية مستدامة تمر أولًا عبر بوابة الحقوق الفلسطينية.
الاتفاق الأميركي-الإيراني: قلق من صفقة على حساب تل أبيب
تتابع إسرائيل عن كثب كل همسة في واشنطن بشأن إيران. في حساباتها، أي اتفاق يخفف الضغط عن طهران هو تهديد مباشر لأمنها القومي. هنا، لا مكان للمجاملات: إسرائيل مستعدة لإفشال أي تفاهم ترى فيه خطرًا، حتى لو أدى ذلك إلى صدام مع الحليف الأميركي. لكنها، في المقابل، ترفض أي مقاربة جماعية أو تفاهمات إقليمية شاملة، وتصر على استقلالية القرار، حتى لو جاء ذلك على حساب استقرار المنطقة، ما يعكس ازدواجية في الخطاب والممارسة.
تصدير السلاح: النفوذ بوجه جديد
لم يعد السلاح الإسرائيلي مجرد أداة دفاع، بل صار ورقة قوة سياسية واقتصادية. الطلب المتزايد من دول الخليج وأفريقيا وأوروبا ليس فقط اعترافًا بالخبرة الإسرائيلية في مواجهة الصواريخ والطائرات المسيّرة، بل أيضًا مؤشر على تراجع الاعتماد الحصري على السلاح الأميركي. إسرائيل هنا تبيع خبرة ميدانية وتشتري نفوذًا طويل الأمد، لكنها في الوقت نفسه توظّف هذه الصادرات لتعزيز مكانتها الإقليمية دون التزام حقيقي بمسؤولية الأمن الجماعي، ما يثير تساؤلات حول أهدافها البعيدة.
العلاقات الإسرائيلية-المصرية: بين معاهدة السلام وضغوط غزة
تشهد العلاقات بين مصر وإسرائيل توتّرًا متزايدًا منذ اندلاع الحرب في غزة، حيث ألقت المذابح المستمرة بحق الفلسطينيين بظلال ثقيلة على مسار العلاقة بين البلدين. مصر أعلنت بوضوح رفضها لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسرًا إلى أراضيها، واعتبرت أن أي تحرك إسرائيلي في محور فيلادلفيا أو تهديد لسيادة سيناء يمثل خرقًا لمعاهدة كامب ديفيد ويستدعي ردًا مصريًا. ورغم حرص الطرفين على عدم انهيار معاهدة السلام، إلا أن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح، وتكدّس مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين على حدود مصر، يضع العلاقة في اختبار حقيقي، ويكشف حدود الصبر المصري أمام السياسات الإسرائيلية التصعيدية.
حزب الله: من الردع إلى الهجوم الاستباقي
تعترف إسرائيل اليوم بأن سياسة الاحتواء بعد حرب 2006 كانت خطأ استراتيجيًا. حزب الله استغل التهدئة ليبني ترسانة تهدد العمق الإسرائيلي. اليوم، تبدّلت العقيدة: الردع وحده لم يعد كافيًا، والهجوم الاستباقي صار خيارًا مطروحًا، حتى لو استدعى مواجهة مفتوحة في لبنان. لكن إسرائيل هنا تتجاهل حقيقة أن سياساتها التصعيدية غالبًا ما تخلق بيئة خصبة لمزيد من العنف وعدم الاستقرار، وتصر على الحلول العسكرية دون البحث الجاد عن تفاهمات سياسية أو أمنية مستدامة.
استقلال القرار: واشنطن ليست سقفًا نهائيًا
رغم الشراكة العميقة مع الولايات المتحدة، ترسل إسرائيل رسائل واضحة بأنها مستعدة للتحرك منفردة إذا اقتضت الضرورة. الرأي العام يُهيّأ لاحتمال عمليات خارج التفاهمات التقليدية مع واشنطن، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بإيران أو أذرعها في المنطقة. لكن هذا النهج يعكس رغبة إسرائيلية في الاستفادة من الدعم الأميركي دون الالتزام الكامل بقواعد اللعبة المشتركة، ما يضع التحالف في اختبار دائم، ويكشف عن نزعة إسرائيلية لفرض الأمر الواقع.
تفاؤل مشروط وحذر دائم: سباق مع الزمن
القيادة الإسرائيلية تُظهر تفاؤلًا محسوبًا، لكنها لا تخفي أن الطريق مليء بالعقبات. إعادة بناء ميزان الردع أولوية قصوى، والاستفادة من التغيرات الإقليمية ضرورة قبل أن تتغير الظروف. التفاؤل هنا ليس استرخاءً، بل حافز لعمل متواصل في سباق مع الوقت، لكن دون رؤية استراتيجية واضحة أو شراكة حقيقية مع محيطها، ما يجعل هذا التفاؤل هشًّا وقابلًا للانهيار عند أول اختبار جدي.
هكذا تبدو إسرائيل اليوم: لاعب لا يترك شيئًا للصدفة، يدير معاركه على أكثر من جبهة، ويعيد رسم خرائط نفوذه بحذر وجرأة في آنٍ. لكنها، في الوقت ذاته، تسعى للاندماج في المنطقة دون تفاهمات حقيقية أو تنسيق فعلي، وتصر على المبادرة المنفردة التي تخدم مصالحها أولًا وأخيرًا. كل محور من هذه المحاور يحمل في طياته رسائل مزدوجة: طمأنة الداخل، وتحذير الخارج، واستعداد دائم للانتقال من الدفاع إلى الهجوم إذا لزم الأمر. وباختصار، إسرائيل تقرأ المنطقة بعين مفتوحة على كل الاحتمالات، لكنها تكتب استراتيجيتها بقلم لا يعرف سوى لغة المصالح الآنية، ولو على حساب الاستقرار الإقليمي والشراكات الحقيقية.