غادر نصير الغلابة، مهنة المتاعب، بعد رحلة انحرفت بمسار أحلامه، وبعثرت المستقبل المنشود، لم يكن يدرك الشاب المفتون بحب الصحافة، عندما دخل إلى هذا العالم المتناقض، حاملاً إجازة في العلوم السياسية من جامعة المؤسس، وركض حالماً متفائلاً، باحثاً عن لقمة عيش هنيئة، أن الحب سيكون من طرف واحد!
أيقونة الصمت، الذي سنقرأ سيرته الغامضة في هذه السطور، شخصية تكونت بفعل فاعل، ومزيج من المواقف والكلمات المتقاطعة، التي ساهمت في صنع بطاقة هوية لا تتوافق مع صاحبها، بالرغم من المحاولات العديدة، للفارس المخذول لمحو فصول، وإضافة فصول في السيرة الذاتية، على أمل أن يتجدد العصر، مع تغيير المراحل في حياته العملية.
لكن القناعات القديمة ظلت راسخة، والصورة الذهنية الجائرة، كانت متوارثة عن هذا المحارب، الذي ترسخ لديه شعور أن العلاقة بينه وبين السلطة مستحيلة، هي علاقة تشبه الصفقات العقارية، تحتاج إلى تنازلات ومعاينة ورسوم وصك تملك، يرفض حتى الخوض في تفاصيلها. من هنا ربما فشل في تغيير التقويم، وبدا في عيون المحيطين شخصاً منطوياً على نفسه، قابعا سنوات طويلة تحت الظل، يراقب المشهد، ويتلقى الوعود العبثية، لامتصاص الصدمات التي كانوا يتخوفون من حدوثها، بعد حادثة أفرزتها ضغوط، كادت أن تنهي علاقته بالصحافة.
نصير الغلابة، بالرغم من ندرة العلاقات الحميمة التي يملكها، كان لديه رصيد ضئيل من الثقة، جمع له ندرة من الأصدقاء، يتواصل معهم وفق مزاج ثلاجة القهوة التي كانت ترافقه إلى مكتبه المنزوي، في ركن من أركان الإمبراطورية التي كان ينتمي إليها، اختاره بعد مشوار من التنقلات المرحلية.
نصير رفيق الدرب للعلاقات عنده فصول، قد تجتمع في يوم واحد، مشابهة لطقس جدة.
تارة يصاحبك وتارة يقطع الوصل، وقد "يفصل عليك" فجأةً.
لكن كان من يقترب منه أكثر يدرك أنه نقي السريرة، أبيض القلب، والجميل فيه أنه يعشق عميد النوادي (الاتحاد)، لذلك حالهما متشابه إلى حد كبير، مرة فوق ومرة تحت.
في كل مرحلة تمر من الحياة العملية لنصير الغلابة، كان يزداد إدراكاً أن حقوقه تتعرض للسرقة، وسنين عمره أضاعها المتنفذون بمحاباتهم، وظل واقفاً بكبرياء البدوي العفيف، راضخاً للأقدار، مؤمناً أن الأرزاق مقسومة، بالرغم من اختلاف الطرق. وكأنه يبحث عن وطن جديد غير مسكون، وأرض لا تعاديه، وبشر يؤمنون بأن المساواة والعدل ضروريان للحياة الكريمة.
من ملامح الوجه والصوت المتهدج، تقع في حيرة، إما أنك أمام شخص يملك قلباً يسع الدنيا، وإما أمام شخص صاحب قلب لو اجتمعت الدنيا كلها لن تستطيع شراءه.
وبالرغم من ذلك، كان مخلصاً للمهنة، ولا يترك أشعة الشمس تزول في نهاية اليوم إلا وقد أنجز المهام المكلّف بها.
هذا القروي البسيط، تفجرت طاقاته فجأة وقلب الموازين، في مرحلة تفاجأ بها المحيطون، حين استلّ قلمه، وأخذ يصور مشاهد يومية، لعدد من زملاء المهنة، بلغة مزجت بين الأسلوب الساخر والبلاغة، حتى أصاب الجميع بالدهشة، وأصبح الرفاق حائرين، يتساءلون: كيف استطاع هذا القلم الجاف، أن ينثر مفردات جميلة وعبارات قصصية، مبعثرة بطريقة كتاب الروايات؟ وظنوا أن من يكتب هو الخال عبده.
لقد كشفت هذه النصوص قناع الشخصية الصامتة، ذات الملامح الصارمة، لتظهر الوجه الحقيقي لهذا الرفيق الحالم، الذي تعرض لي ببروفايل كتبه بنكهة القهوة، ومزاج "رايق منتشي". تأكدت أنه جاء بعد انتصار للعميد. إلى هنا انتهت القصة. وغادر البدوي النقي المشهد بشموخ، بلا تذاكر وأمتعة، تاركاً الهموم الغبراء بوسط المعمعة. ولم يبق له من المستقبل المهني سفوح، ورأس ماله ذكريات وصحف ورقية جفّت أحبارها ومطابع سكت أزيزها إلى الأبد.