لا تشرب القهوة مع الأعداء، لأن الطعم لن يكون طعماً، والرائحة ستفوح منها نكهة الخيانة، وستلاحظ أن حرارة الفنجان تشبه حرارة الجمر المدسوس تحت كرسي الثقة!
في حضرة العدو، تصبح القهوة حفرة من الحنين المغشوش، ومقعد الانتظار لم يعد يشبه ما عرفته يوماً، بل يتحول إلى منصة إعدام مؤجل، تُحاك فيه المؤامرة على مهل، وسط صمت ثقيل كي لا تشعر بمرارة المصير!
الأعداء لا يضعون السم في (الدلة) بل في الكلمات، ستجدهم يبتسمون وهم يكسرون زجاجك الداخلي، يشربون رشفة ويراقبون انعكاسك في فناجينهم، يبحثون عن الشروخ في مراياك ليوسعوها، ثم يقولون: أنت بخير وتبدو رائعاً وبأحسن الأحوال، لكن العيون تعرف ما لا تنطق به الشفاه، وتقرأ ما تسكته النوايا، العدو في وقتنا الحالي لا يحتاج إلى سكين إذا كان يملك حديثاً ناعماً، ولا يحتاج إلى طلقة إن امتلك ذاكرة لا تنسى نقاط ضعفك.
لا تشرب القهوة مع الأعداء، لأنهم يعرفون متى تكون في قاعك، لا يعرضونها حين تكون قوياً، بل حين تُنهك وحين يتثاءب الأمل، وتغفو الكبرياء في حضن التعب، يقدمون لك الكرسي ويطلبون الحديث عن (القديم) لا حباً بالماضي، بل بحثاً عن الجراح المفتوحة، يلتقطون أنفاسك المرتبكة مثل مصور بارع، يدّعون الحنين وهم في الحقيقة يحنّطونك ببطء.
حين تشرب القهوة معهم، ستظن أن شيئاً قد تغيّر، ستقول لنفسك: ربما نضجوا… ربما فهموا… ربما استرجلوا..! ولكن الحقيقة؟ لم يتغير أحد، أنت فقط من أرهقه الظن الحسن.
الأعداء لا يسامحون، بل يخططون، في صمتهم ألف لغم، وفي حديثهم ألف فخ، وفي عطائهم المؤقت طُعم لاصطياد غفلتك، سيهزون رؤوسهم لك احتراماً، وهم في دواخلهم يعدّون عدد المرات التي كُسرت فيها، يبتسمون لأنهم رأوك تُهزم ولم تمت، وهذا ما يزعجهم… أنك لا زلت تنبض.
لا تشرب القهوة مع الأعداء، لأن المجلس الذي يجمعكم اليوم، سيصبح يوماً أسخن من ساحة الحرب، والهدوء الذي يسكن الجو، ما هو إلا صمت المدافع بعد المجزرة، وإن نسيت فالفناجين تتذكر، هي لا تنسى من سكب القهوة بيد مرتجفة ومن سكبها على جسدك وهو يضحك.
سيقول لك أحدهم ذات يوم: دع الماضي يمضي، ثم يضع حبة (هيل) في فنجانك، لا تنخدع، الهيل ليس نسياناً، وليس للغفران، من خانك مرة، سيخونك مرتين… وإن لم يخنك اليوم، فسيحتفظ بخريطتك ليبيعها للذي يملك السعر الأعلى.
سيجلس عدوك قبالتك متقمصاً دور الصديق، يحدثك عن الفلسفة، عن الصبر، عن الله وعن القيم، لكنك إن كنت يقظاً، ستدرك أنه لا يعبد إلا رغبته، ولا يصبر إلا على دورٍ لم ينتهِ بعد، وأن فلسفته مبنية على حقدٍ مؤجل لا يفنى وغيرة الجبناء..!
تذكر دوماً: ليست كل خيمة تجمعك بمن تعرف، ولا كل جلسة تعني صفاء، أحياناً تُقام الولائم لتمويه الذبح، ويُعاد فتح الحديث لترميم كذبة قديمة، وإن ضحكوا، فاضحك أقل، وإن مدّوا أيديهم، صافحهم بقلبٍ من خشب، لأن الأعداء لا يغفرون… فقط يراكمون.
هم لا يريدون إصلاح العلاقة، بل إصلاح روايتهم عنها، يريدون أن يُقال إنهم حاولوا، لا لأنهم نادمون، بل ليبدو المشهد متوازناً عند تأريخ الفجيعة، يريدون أن تشرب القهوة كي لا تبدو الحكاية ناقصة… كي لا يُقال إنهم ظلّوا على عدائهم حتى النهاية. أما أنت؟ فأنت الذي يجب أن يرفض النهاية المزيفة.
لا تشرب القهوة مع الأعداء، لأنك حين تفعل، فإنك تمنحهم فرصة لجعل ألمك (مشتركاً ومباحاً) وكأن كل ما فعلوه لا يُحسب، وكأنك كنت شريكاً في العطب وهم يعلمون، وأنت تعلم، أن جراحك ما كانت لتُفتح لولا خيانتهم، فلماذا تمنحهم شرعية إعادة الرواية؟
في حضرة العدو، احذر حتى من الصمت، لأنه قد يُفهم على أنه قبول، وقد تُقتطع عبارتك من سياقها وتُستخدم ضدك، ولا تنسَ أن العدو الجالس أمامك ليس وحده… بل يحمل معه ظله، وماضيه، ومن شجّعوه على إيذائك.
سيقولون: دعونا نبدأ من جديد…
وكأن التاريخ مجرد صفحة قابلة للتمزيق، سيطلبون المصافحة أمام الجميع، لا لتُغفر الذنوب، بل ليُقال إنك صافحت، فينسى الناس من غدر، سيقدمون لك القهوة مرة أخرى، لا لأنها طقس للمرجلة، بل لأنها لحظة يُختبر فيها ضعفك.
ولكن ماذا لو اضطررت؟ ماذا لو أجبرك الزمان على الجلوس؟ حينها… لا تنظر في أعينهم، ضع حواسك في حالة طوارئ، واشرب القهوة ببطء، كأنك تحصي الطعنات التي لا تزال تذوب في القهوة.
وانظر كيف أن فمك يتحرك بينما قلبك لا ينبض، وكيف أن الزمن كله يتجمد، لأنك في حضرة من تعرف تماماً أنه ما صافحك إلا ليقيس ضعفك، وما جلس أمامك إلا ليطمئن أن النبض لا يزال في متناول رصاصه.
في كل رشفة، ستشعر أنك تبتلع تاريخاً من الانكسارات المغلفة بالتمر السكري، وسيسألك لسانك: لماذا المرارة بالرغم من السكر؟ والجواب: لأن القهوة مسمومة حين تُقدم من يدٍ كانت يوماً تكتب تقارير موتك.
ولذلك، لا تشرب القهوة مع الأعداء، لا تطبع صورة للمصافحة، لا تضع توقيعك على مذكرة خيانة معنونة بـ (مصالحة) بل انسحب… انسحب وأنت ترفع رأسك عالياً، دون غضب، دون شتيمة، فقط بكامل الصمت، فالذي باعك في الأمس لن يشتريك اليوم، وإن ابتسم.
وبعدها، اصنع لنفسك قهوة في بيتك. اشربها مع نفسك، أو مع من كانوا معك حين كنت في قاع الألم، لا على طاولة الاستعراض، اجعل من طقسك الخاص جبهة نصر، لا جبهة إنكار، ولا تسمح لتاريخك أن يُعدَّل في مائدة مزيفة.
في النهاية، نحن لا نخسر الأعداء حين نرفض الجلوس معهم، نحن فقط ننتصر لأنفسنا، وفي هذا العالم، لا يوجد انتصار أنبل من أن تحفظ ذاكرتك دون تعديل… أن ترفض أن تُنسى الحقيقة باسم اللباقة، أن تقول: لا… أنا لا أشرب القهوة مع من حاولوا تسميمي… حتى لو كانت قهوتهم (عربية)!