: آخر تحديث

التبغ السوري.. منتج ينتظر الإنصاف

3
2
2

في عمق السهول والجبال السورية، بين أخاديد التراب ومطر الحنين، يواصل مزارعو التبغ زراعة ما تبقى من أمل، رغم الخذلان، ورغم المواسم التي باتت تُحصد أكثر وجعاً مما تُنتج دخلاً. في كل حفنة تراب هناك حكاية تعب عمرها سنوات، تُروى بصمت تحت ظلال قرارات رسمية بدت وكأنها تتعمد تفكيك هذا القطاع الزراعي، تمهيداً لبيعه أو تسليمه لمافيات التهريب العابرة للحدود، التي لا تعبأ إلا بالأرباح، ولو كانت على أنقاض أرزاق الناس.

لم تكن أزمة التبغ في سوريا بنت لحظة، ولا وليدة الجفاف أو تغير المناخ وحدهما، بل جاءت كحصيلة مباشرة لتراكم السياسات الخاطئة، أو المتعمّدة، التي دفعت الفلاحين دفعاً إلى ترك أراضيهم أو التخلّي عن محاصيلهم. هذا الانسحاب القسري لم يكن بريئاً، بل جرى بانسجام غير معلن مع شبكات تهريب باتت تتحكم اليوم بسوق الدخان المحلي، تنهب المستودعات، وتملأ السوق بمنتجات مهربة ومنخفضة الجودة، فيما تبقى الدولة في موقع المتفرّج، أو الشريك الصامت.

التبغ، الذي كان يوماً شريان حياة لعشرات آلاف العائلات المنتشرة في سهل الغاب وجبال الساحل وسهول درعا وأرياف إدلب، أصبح عبئاً ثقيلاً على من يزرعه. تكاليف الإنتاج تتضاعف من موسم إلى آخر: الأسمدة، اليد العاملة، الوقود، الري، النقل بأسعار السوق السوداء. ورغم ذلك، يبقى السعر الذي تُقرره المؤسسة العامة للتبغ أو "الريجي" مجهولاً حتى نهاية الموسم، كأنما ليظل المزارع في مهبّ التقديرات والعشوائية، لا يعرف كيف يخطط، ولا إن كان سينجو من الخسارة.

ويكاد الفارق السعري أن يلخص المأساة برمّتها. ففي الوقت الذي يتقاضى فيه المزارع اللبناني ما بين 7 و9 دولارات للكيلوغرام الواحد، مدعوماً بمبلغ يصل إلى 2.5 دولار من الدولة، يضطر نظيره السوري إلى بيع التبغ بأقل من دولارين، وغالباً بالليرة السورية التي تفقد قيمتها كل يوم. هذا الفارق لا يمكن تفسيره فقط بالعرض والطلب أو تقلبات السوق، بل يكشف عن غياب كامل للرؤية الاقتصادية، بل وربما عن تواطؤ ضمني مع منظومات التهريب التي تُغرق السوق بمافياوية منظمة، وتُضعف المزارع الشرعي لصالح أرباح غير مشروعة.

الأخطر من ذلك أن هناك من يربح من خراب هذا القطاع. كل تراجع في زراعة التبغ يعني فرصاً أكبر لمهربي الدخان، ومزيداً من الأرباح السريعة دون رقابة أو ضرائب. في المقابل، يُترك التبغ السوري، المعروف بجودته ومواصفاته العالية، دون معامل تصنيعية حديثة، ودون اهتمام حقيقي بسلاسل الإنتاج والتسويق، كأنما المطلوب هو إفراغ الريف من أدوات صموده، لا دعمه للبقاء.

ولا ينبغي أن يُنظر إلى التبغ كمجرد محصول موسمي، بل كقطاع اقتصادي متكامل بإمكانه، إذا ما أُدير بعقلانية، أن يرفد الخزينة بملايين الدولارات سنويًا. فهذه الزراعة قادرة على توليد فرص عمل في القرى والمناطق المهمّشة، وعلى دعم صناعات وطنية واعدة في التصنيع والتغليف والتصدير. لكنه حلم لا يمكن تحقيقه دون سياسة واضحة وشجاعة تبدأ من تحديد سعر عادل للمزارع لا يقل عن 6 دولارات للكيلوغرام، وتمر بإعادة تأهيل وتشغيل المعامل، وتنتهي بحماية السوق من التهريب والفساد.

وإذا كانت الدولة جادة في دعم ما تسميه "الصمود"، فإن أول مقومات الصمود تبدأ من الأرض، ومن احترام من يعمل بها. لا يمكن الحديث عن تنمية ريفية، أو عن أمن غذائي، فيما يُترك الفلاح تحت رحمة المجهول، بلا دعم، بلا خطة، بلا تسويق منصف، ولا تسعير عادل. كل شعار يُرفع دون أن يترجم إلى سياسة عادلة في الميدان، يبقى صدى أجوف لا يسمعه أحد.

ما زال في الحقول من ينتظر. مزارعون يزرعون لا بدافع الربح، بل بدافع الانتماء، والحنين، والكرامة. يرفضون مغادرة الأرض، رغم القسوة، ويواصلون العناية بمحاصيلهم، لا لأنهم يربحون، بل لأنهم لا يعرفون طريقاً آخر للحياة. وما يطلبونه ليس كثيراً: عدالة. عدالة في السعر، عدالة في الدعم، وعدالة في التعاطي مع قطاع طال إهماله، حتى كاد يختفي.

فهل تسمع الدولة صوت التبغ وهو ينادي؟ وهل تملك الجرأة لتستجيب، لا بالشعارات، بل بالقرارات؟ الوقت لم يعد في صالح أحد، والموسم على الأبواب، والفرص لا تنتظر. التبغ السوري لا يريد منّة، بل إنصافاً.

وما زالت جذور الصبر تحت التراب تقول: نحن هنا... ننتظر إنصافاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.