نعم، كما قال كاتبنا المعروف، "أنا من الموحدين"، وأزيده عمقًا ومعنى، "أنا الهجري"، لأنني حين أرى الأطفال يُذبحون أمام أعين آبائهم، والكرامة تُهدر، والبيوت تُهدم فوق ساكنيها، يحق لكل مكوّن أن يستنجد بمن يشاء، لا بل يصبح هذا الاستنجاد فعل مقاومة، وصوتًا يعلو فوق ركام العجز والتواطؤ، فالوطن ليس مزرعة، والسيادة ليست شعارًا يُلوّح به فوق المقابر الجماعية.
حين يصرخ شيخٌ جليل من جبل الدروز، ذاك الجبل الذي أعاد تسميته إلى "جبل العرب" تكريمًا للعروبة والوطن، ويطلب النجدة من أبناء طائفته في إسرائيل، لدرء غزواتٍ قبليةٍ لا تعرف من الرجولة إلا سيفَ النهب، ولا من البطولة إلا سفكَ الدم، فإنه لا يخرج عن دائرة الوطنية، بل يُعيدها إلى معناها الجوهري، أن تُصان الكرامة قبل الشعار، وأن يُحمى الإنسان قبل الأرض، فالوطن ليس خرقةً تُرفع فوق أنقاض القيم، بل عقدٌ أخلاقي، لا يكون له معنى إن دُفنت تحته الكرامة.
فما الفرق، بل أين الفارق الأخلاقي، بين أن تطلب حكومة المعارضة دعمها من تركيا، وهي من أشدّ أعداء المكونات السورية، أو من قطر، أو من دول عربية رضيت أن تكون مموّلًا لصراعات الوكالة؟ أليست الفصائل التي تشكّلت منها ما تُسمى "الحرس الوطني السوري" من إنتاج المال السياسي التركي القطري؟ أليس بعضها تربّى في أحضان الاستخبارات، وتشكّل على أنقاض الفوضى الإقليمية، تمامًا كما نشأت ميليشيات النظام المجرم برعاية إيران ودعم روسي مباشر؟
إنها المعادلة السورية المشوهة، الجميع يستقوي بالخارج، والجميع يتّهم الآخر بالخيانة، أما الأرض، فهي التي تنزف. والشعب، فهو الذي يدفع الثمن من دمه وشتاته، وسط انعدام كامل للثقة بين المكونات، وانزلاق متسارع نحو الانقسام، أو إعادة إنتاج الطغيان بوجه جديد.
ما أفظع أن تتحول "إسرائيل" إلى عقدة نفسية، في وعي عربي وإسلامي مأزوم، نُزعت منه القدرة على التمييز، حتى بات يعتبر كل ما يصدر منها اعتداء، حتى لو كان شربة ماء لطفل جريح أو حماية لطائفة تُباد، تناست هيئة تحرير الشام كيف أن جرحى المعارضة السورية ومن بينهم منظمة الحكومة السورية الانتقالية كانت تعالجهم إسرائيل في مستشفياتها، فمن غرَز ثقافة العداء الأعمى، ونقض نصوص الديانات السماوية الثلاث التي دعت إلى قبول الآخر؟ كيف أصبحت طلبات الاستغاثة من إسرائيل تُعامل كخيانة، بينما الاستنجاد بالمحتل التركي، أو بالمليشيات الإيرانية، أو بأموال الخليج، يُعتبر شراكة وطنية مباركة؟
وحين كانت عفرين تُغتصب، وكري سبي وسري كانيه تُنهبان، وبيوت الكورد تُهدم، وأهلها يُهجّرون، لم تتحرك نخوة لا عربية ولا إسلامية، ولم تصدر "فتوى وطنية" تندد باجتياح تركي فجّ، أراد تغيير ديموغرافيا شعوب المنطقة، وسحق حلم الحرية.
ولنكن واضحين، إسرائيل، بالرغم من كل ما يُقال، تظل من حيث البنية الديمقراطية، وحقوق الأقليات، أفضل من كل أنظمة الشرق الأوسط، في تعاملها مع الدروز، ومع الفلسطينيين من مواطنيها، ومع السوريين المقيمين في مناطقها، فهل يحصل الكورد في تركيا أو سوريا على ما يحصل عليه الدروز أو العرب في إسرائيل؟ ألا يستحق الواقع شيئًا من الموضوعية بدلًا من شتائم محفوظة؟
إنَّ العداء الحقيقي الذي يدمّر شعوب المنطقة ليس موجَّهًا ضد إسرائيل كما يُروَّج، بل هو نتاج ثقافة مشوَّهة، متغلغلة في عمق الوعي الجمعي، تُكرّس الكراهية ضد كل مكوّن غير عربي أو غير مسلم، بل وحتى داخل الإسلام ذاته، حيث نجدها مستفحلة بين السنّة والشيعة، بل وأبشعها بين طوائف السنّة أنفسهم، لا يقل من العداء لليهود أو لإسرائيل.
صرخة شيخ العقل حكمت الهجري، ليست خيانة، بل نداء وطن، صوت من بقي على قيد الكرامة، يواجه نظامًا لا يعترف بأحد، ويذكّر شعبه أن الوطنية ليست في الهتاف الأجوف، بل في حماية الناس، وصون الدماء، والدفاع عن الوجود.
الوطنية لا تعني أن تبايع قاتلك، بل أن تحمي شعبك من الذبح، والوطن ليس مزرعة للبقاء في العبودية، بل حقل حرية، يُسقى بعرق الكرامة، لا بماء الذل.
ومن اتهم الشيخ الهِجري بالخيانة، فليتأمل في خيانته هو، لعلّه يرى في المرآة وجهه الحقيقي، فالخيانة لا تكمن في أن تستنجد بجاليتك في إسرائيل لدرء خطر غزوات قبلية تتقدّم كداعش بأسماء جديدة، مدعومة من بقايا هيئة تحرير الشام التي ترتكز عليها الحكومة السورية الانتقالية، بل الخيانة حين تستنجد بعشر دول عربية تقودها تركيا، لتشنّ عدوانها على مكوّن سوري وطني، أثبتت معاركه وتضحياته صدق انتمائه للأرض وللإنسان.
الخيانة ليست صرخة استغاثة لحماية نسائك من السبي، وأطفالك من الذبح، بل هي حين تبيع قرارك الوطني لتعويم مكون تكفيري متطرف على حساب مكونات سوريا الوطنية، وترفع رايات الطائفية على أنقاض الدولة، وتضع يدك بيد مَن خان كل ثورة، وارتكب كل جريمة.