علي قباجة
بعد سنوات من التوتر والقطيعة السياسية التي أعقبت استفتاء «بريكست» عام 2016، تعود باريس ولندن إلى طاولة التعاون، وهذه العودة بالطبع ليست بدافع المصالحة العاطفية، وإنما أتت تحت وطأة واقع استراتيجي وأمني، يفرض التقارب خياراً لا مفر منه بين دول الاتحاد الأوروبي كافة، وليس بين بريطانيا وفرنسا وحسب، وربما تفتح زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى لندن، الباب لبقية دول أوروبا لتحذو حذو فرنسا في ذلك، لاسيما أن هناك نقاطاً مشتركة عدة، تحتم على دول القارة العجوز رأب الصدع في ما بينها. زيارة ماكرون إلى لندن تحمل رمزية تتجاوز البروتوكول، إذ إنها تشير إلى أن مرحلة جديدة في العلاقة الأوروبية بدأت في التشكل، متجاوزة خصومة الأمس نحو شراكة محسوبة، فخلال السنوات الماضية، سيطرت الشكوك وسوء النية على العلاقة، حيث رأى البريطانيون في ماكرون رمزاً أوروبياً يُعادي قرارهم السيادي، بينما اعتبر الفرنسيون أن لندن أصبحت شريكاً غير موثوق، وأنها أقرب إلى واشنطن منها إلى جيرانها، وبلغت الأزمة ذروتها مع صفقة الغواصات الأسترالية التي استُبعدت منها فرنسا لمصلحة تعاون بريطاني-أمريكي، ما عمّق الجراح وزاد الهوة بين الجانبين. المشهد السياسي العالمي وتبدل الحكومة في بريطانيا، أسهما في دفع الجانبين نحو إعادة العلاقات، فصعود كير ستارمر إلى رئاسة الحكومة البريطانية، أعاد البراغماتية إلى الواجهة، وعلى الرغم من عدم قدرته، راهناً، على إلغاء «بريكست»، فإنه يدرك أن خفض كُلفة الانفصال يمر عبر التعاون مع أوروبا، وباريس تحديداً، ومن جانبها تُقدر فرنسا أن بريطانيا على الرغم من خروجها من الاتحاد، فإنها تبقى قوة نووية وعضواً دائماً في مجلس الأمن، ولا يمكن تجاوزها في أي مشروع أمني أوروبي جاد. تدرك دول الاتحاد الأوروبي، أن التحديات التي تواجهها، وأبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، تحتم عليها التعاون فيما بينها على الصعد كافة، ولقد تنبه ماكرون إلى ضرورة ذلك، فحمل في جعبته الكثير من رؤى التعاون المشترك إلى بريطانيا، أبرزها تجديد معاهدة «لانكستر هاوس» الدفاعية، وطرح مقترحات لتنسيق نووي أوروبي، وتوسيع التعاون في البلطيق والقطب الشمالي، ضمن رؤية أوروبية أكثر استقلالاً عن المظلة الأمريكية. صحيح أن الخلافات بين دول القارة لم تنتهِ، من ملف الهجرة، وغيره، إلا أن الإرادة السياسية المتجددة أقوى من هذه العقبات، وهو ما تؤكده استطلاعات الرأي التي أظهرت رغبة شعبية واسعة في البلدين لتعزيز التعاون الدفاعي، وربما بناء قدرة ردع أوروبية مشتركة. وما يجمع لندن وباريس اليوم لم يعد مجرّد مصالح، بل قناعة مشتركة بأن التهديدات الراهنة تتطلب شراكة حقيقية تتجاوز الماضي نحو مستقبل أوروبي أكثر أماناً وتماسكاً.