: آخر تحديث

المشروع الوطني الفلسطيني

1
1
1

نبيل سالم

من يتابع تطورات المشهد الفلسطيني، ويراقب ما يحدث من جرائم ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وتنكُّر إسرائيل لأبسط الحقوق الوطنية الفلسطينية، يرى، ومن غير عناء، أن القضية الفلسطينية تمر اليوم بمنعطف هو الأخطر منذ نكبة 1948. ففي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل جرائم الإبادة الجماعية في غزة ومشاريع الاستيطان، وتهويد القدس، يعيش الشعب الفلسطيني أزمات أخطر، تفرزها حالة الانقسام السياسي العميق بين سلطتين منفصلتين، وحركات وتيارات سياسية وأجندات متباينة، ما يُفقِد البطولة التي يبديها المقاومون الفلسطينيون، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، الكثير من إنجازاتها على مذبح الخلافات الداخلية، وهو ما يدفع بالمشروع الوطني الفلسطيني إلى مآزق تَفرض على القوى السياسية الفلسطينية الاعتراف صراحة، ومن دون مواربة، بأن الحالة في الساحة الفلسطينية باتت بحاجة إلى إصلاحات حقيقية، وتصويب البوصلة النضالية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح من جديد. ومع هذا الواقع، لا يبدو الحديث عن تصحيح المسار الوطني الفلسطيني ترفاً سياسياً، ولا مجرد خيار مرحلي، بل ضرورة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. والمطالبة بتصحيح المسار الوطني لا تعني بأي حال من الأحوال تخطيء التجربة النضالية الفلسطينية، التي قدم الشعب الفلسطيني في إطارها مئات الآلاف من الشهداء والجرحى وعشرات آلاف الأسرى، وإنما تقييم المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، واستخلاص النتائج والعبر منها. صحيح أن المشاريع الوطنية والتحررية لا تسير في اتجاه مستقيم دائماً، وأنه من الطبيعي أن تواجهها الكثير من المطبّات والمنعطفات الإجبارية القاسية، ومسارات الصعود والهبوط، وأن تشهد هزائم وتراجعات وتصدعات أحياناً، لكن تجاوز هذه المطبّات والمنعطفات والتحديات لا يمكن أن يتم من دون مراجعة حقيقية لكل المواقف أو الأخطاء التي تركت بصماتها واضحة على القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها حالة الانقسام وغياب الإجماع الوطني، وتهميش المؤسسات الشرعية، وانحسار العمل السياسي الفلسطيني في أيدي طبقة سياسية مهيمنة في الداخل الفلسطيني، وغياب المشاركة السياسية الفعلية للفلسطينيين خارج الوطن. فمن بين كل هذا الركام، ومئات جثث الشهداء الذين يتساقطون يومياً برصاص قوات الاحتلال العنصري الإسرائيلي، وهذه العاصفة الدموية، ألا يحق للشعب الفلسطيني أن يتساءل كيف يبني مشروعه الوطني الذي عُمِّدَ بدماء الشهداء على مدار نحو مئة عام ونيف، أي منذ رَسْم مخططات المشروع الصهيوني في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 وحتى يومنا هذا؟ لقد بات واضحاً أن الشعب الفلسطيني لا يحتاج اليوم إلى مزيد من الخطابات وتقديم الرؤى السياسية المتضاربة التي تعرقل مسيرة المشروع الوطني، وإنما إلى استراتيجية فلسطينية وطنية جامعة، خاصة في ظل وجود السلطة الفلسطينية التي مازالت تراهن على مفاوضات مزمنة لا طائل منها، وتنسيق أمني لم يجلب معه سوى المزيد من التآكل للشرعية الفلسطينية التي حاولت منظمة التحرير الفلسطينية رسم معالمها في اتفاق أوسلو، رغم التنازل عن أكثر من 80% من مساحة الوطن الفلسطيني المغتصب، أملاً في سلام يقود إلى دولة فلسطينية لم تكن سوى يافطة لمفاوضات عبثية استغلها الاحتلال لتمدده الاستيطاني، وزيادة جرائمه بحق الشعب الفلسطيني. ويكفي القول إن عدد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تضاعف إلى أربعة أضعاف بعد اتفاق أوسلو عام 1993، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه في عام 1992 كان عدد المستوطنات في الضفة الغربية 172 مستوطنة، يقطنها حوالي 250 ألف مستوطن، ليصل العدد إلى 444 مستوطنة وبؤرة استيطانية عام 2023، تضم نحو 950 ألف مستوطن، أي ما يقارب المليون. والطامّة الكبرى أن كل هذه السياسات التوسعية العدوانية كانت تسير جنباً إلى جنب مع استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، وتأجيل أو تعطيل الانتخابات الفلسطينية الرئاسية والتشريعية، حيث انتهت مدة ولاية المجلس التشريعي الفلسطيني منذ العام 2010، كما تم تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية في عام 2021، وذلك بعد رفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي إجراء الانتخابات في القدس، حيث لم يتم تحديد موعد جديد للانتخابات حتى الآن، ناهيك عن تلاشى دور المنظمات الشعبية كاتحادات الطلاب والعمال والكُتّاب والمرأة، وغيرها، وهي اتحادات ومنظمات شعبية لعبت دوراً كبيراً في الستينات والسبعينات في نهوض الوضع الفلسطيني وتشكيل هوية الفلسطينيين، كما أنها شكلت إطاراً وسطاً بين المجتمع المدني والوسط السياسي الفلسطيني. أمام هذا الواقع، يبدو أن أي نقطة انطلاق جادة لاستراتيجية فلسطينية لمواجهة المرحلة الراهنة، بما تحمله من تحديات ومخاطر، يجب أن تبدأ من تشخيص الداء أولاً، لا من ترميم واجترار الشعارات، وأولى خطوات هذه الاستراتيجية الوطنية يجب أن تبدأ أولاً وقبل أي شيء آخر بما هو مطلوب فلسطينياً، وهو إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، التي يسعى الاحتلال العنصري الإسرائيلي إلى تعميقها في الشارع الفلسطيني، لا سيما وأن هذا الانقسام بات يمثل أداة وظيفية تخدم ديمومة الاحتلال، وتمنع أي تقدم حقيقي في المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد