سارا القرني
في زحمة التحوّلات الرقمية، تغيّر كل شيء.. حتى الأسرة. باتت الأمهات يحضنّ أطفالهن بيد، وفي اليد الأخرى هاتف ذكي. والآباء صاروا يقتسمون وقتهم بين العمل والرد على إشعارات الأجهزة. في هذه الزاوية الضيِّقة، خُلق جيل يُربّى بالشاشة أكثر من الكلمة، ويتعلَّّم من التطبيقات أكثر مما يتعلَّم من الآباء.
لم تعد التقنية مجرد أداة، بل أصبحت البديل؛ بديلاً عن الحوار، عن الجلسات العائلية، عن القصص التي كانت تُحكى على ضوء مصباح دافئ. واليوم؟ مصابيح زرقاء تضيء وجوه الأطفال في منتصف الليل، وأجهزة ترسم عالمهم أكثر مما تفعل الأسرة.
الابن لم يَعُد يشتكي لأمه، بل يُغرِّد. والابنة لم تَعُد تسأل أباها، بل تبحث في «جوجل». في هذا المشهد الساخر والمؤلم معًا، نكتشف أن ما نُربيه اليوم ليس أبناءً، بل ضحايا لعُزلة رقمية، وجفاءٍ عاطفيّ متلفز.
ولأننا نُحب أبناءنا، نقنع أنفسنا أن ما نفعله «لأجلهم». نُعطيهم أحدث الأجهزة ونُهيئ لهم أسرع الإنترنت.. لكننا ننسى أن «القيمة» لا تُغنينا عن «القدوة»، وأن الطفل لا يحتاج شاشة ملوَّنة بقدر ما يحتاج لعين صادقة تنظر إليه.
التربية الحديثة ليست صراعًا مع التقنية، بل وعيًا بكيف نُطوِّعها لصالحنا لا ضدَّنا. فكما أن السكين تقطَّع بها الخبز أو تجرح بها الجلد، فإن الهاتف إما أن يكون بوابة علم.. أو هاوية ضياع.
إن أردنا جيلاً قويًا.. فلنبدأ باستعادة أبسط المعاني: أن يجلس الأب مع أبنائه دون أن يُقاطعهم إشعار. أن تُنصت الأم لابنتها لا لمؤثِّر صوتي على «ريلز». أن نُعلِّمهم أن الانتباه ليس فقط لمن في الشاشة، بل لمن في حضن القلب.
نحتاج لوقفة صريحة مع أنفسنا: هل ربَّينا أبناءنا على القيم، أم سلَّمناهم طواعية لعوالم افتراضية لا نعرف قوانينها؟ هل زرعنا فيهم الانتماء للعائلة، أم اكتفينا بأن يكونوا «متَّصلين دائمًا»؟
في قلب كل بيت، هناك طفل ينتظر أن يسمعه أحد. أن يُصغي له دون شروط، دون اختصارات. التكنولوجيا منحتنا القدرة على التواصل مع العالم، لكنها أخذت منا التواصل مع من نُحب.
جيل اليوم لا ينقصه الذكاء، بل العاطفة. لا يفتقر للمعلومة، بل للملجأ. وبين زحام التحديثات، تغيب لحظات التفاهم، وتضيع أعمار في اللهاث خلف صور.. لا تُشبه الحقيقة.
وختامًا، لن نصلح ما أفسدته التقنية بالصراخ في وجهها، بل بالحكمة في إدارتها. أن نكون الحاضر قبل أن نلوم الغياب، أن نُشعل شمعة بدلاً من أن نلعن الشاشة، وأن نعود لما لا يُستبدل: حضن الأم، كلمة الأب، لحظة صدق.. وسؤال من القلب: كيف حالك يا بُني؟