وليد عثمان
تدمي «رمادة غزة» القلوب بعد أن جفت معاني الإنسانية في أجساد صناع أزمتها التي حملت قبل أن تصل إلى مرحلتها الحالية وصف «وصمة عار» في جبين البشرية. لم يكن أحد يتصور أن نبلغ هذه المرحلة التي يصبح فيها أهل غزة الوقود الرئيسي للحرب العبثية، فلا بنيان بقي، ولا مفردات حياة أساسية، ولا قيمة لأي قوانين أو مبادئ من تلك التي تحكم الصراعات وتحاول تجنيب البشر غير المنخرطين فيها أخطارها. اليوم، تدفع غزة ثمن مغامرات كل الأطراف من أهلها، خاصة الأطفال، الذين يصعدون إلى السماء جوعى، ويرتقون بأجساد هزيلة وبطون خاوية، بينما صنّاع محنتهم المخجلة يتبادلون الأنخاب على موائد التفاوض الممض الممل، ويقتاتون على ما لذ وطاب من التسويف وتعطيل النهايات التي تأخرت طويلاً. اتفق الجميع على هدف واحد هو الضعاف في غزة الذين يحاصرهم طرف بالجوع والموت، ليسهل تهجير من بقي منهم، ويحتكر طرف آخر الحلول، ليبقى حاكماً بلا شعب ولا أرض. كان الطرف الإسرائيلي، حين بدأت الحرب، يقدم هدف استعادة أسراه على ما سواه، لكنّ تداعي أحجار المحور المناوئ فتح شهية بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، فبدأ في التهام الساحة تلو الأخرى مستغلاً تبدلات المنطقة، وها هو ماض في قضم جزء من هنا وآخر من هناك ليشكّل خرائط جديدة بمعاونة أصحاب المصلحة في تشويه ثوابت الجغرافيا والتاريخ. نسي نتنياهو أسراه، فلا يعود إلى ذكرهم إلا حين يشتد ضغط أسرهم، بينما لا تزال «حماس» تعتبرهم ورقة ضغط في مفاوضات جدباء. ولعل الأسرى الوحيدون في القطاع، ومعهم حراسهم من الحركة، الذين لا يشكون جوعاً ولا خوفاً، فلا أحد منهم أُعلن عن موته ببطن فارغة، فمن أين يأكلون؟ كيف تبقي «حماس» رهائنها ومسلحيها على قيد الحياة، في حين يصرخ أهل غزة بحثاً عن «كيس طحين»؟ من في العالم أولى بأهل غزة وأقرب إليهم من الحركة المتخمة المشنغلة بما يديم تفردها بمصائرهم، لكنها تتغافل عن ذلك وتستنجد بمن ينقذهم، وتمضي جماعتها الأم في توزيع التهم على الجيران القريبين والبعيدين، وتتاجر بضحايا الحسابات الخاطئة؟ أصبح الأسرى في خطط نتنياهو مجرد خسائر مرحلية تعوضها مكاسبه الاستراتيجية وآماله التوسعية، بينما تسمّن له «حماس» الأحياء منهم بجثث الغزيين التي تسقط من قلة الطعام أو أثناء انتظاره، ولعله يراهن على أن يبقى منهم فقط من يسهل حشره في مكان من القطاع أو دفعه إلى هجرته، وفي كلٍ خير له. كل طرف منهما يتاجر بالغزيين، أحياء وأمواتاً، ولعلهما نقطة التقائهما الوحيدة، هذا يحاصرهم بالموت، وذاك يرمم سمعته بازدياد عدد الضحايا. الغزيون الآن هم الأسرى الحقيقيون في هذه الحرب العبثية، لكن لا تحميهم قوانين ولا معاهدات، بينما نظراؤهم الإسرائيليون في رعاية الحركة يقاسمون حراسهم الشبع والأمن.