عبدالعزيز الكندري
هنا أرض غزة التي تختبر ضمير العالم، وتقول له: ثمة جوع يفتك بالأجساد كما تفعل القنابل... وثمة موت صامت لا يُرى دخانه، لكنه يحرق الأمعاء والأرواح معاً.
غزة الآن ليست أزمة غذائية عابرة، بل مجاعة مصطنعة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يفرضها حصار خانق وقصف لا ينقطع منذ أكثر من تسعة أشهر. لقد انهارت المنظومة الحياتية بأكملها، وأصبح الأطفال، قبل الكبار، وجوهاً شاحبة في مشهد يُدمي القلوب ويعري الضمائر.
فكيف ينام العالم هانئاً وهناك مئات الآلاف بلا طعام، يئنون تحت سقف الموت والجوع معاً؟
تُشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الوضع الغذائي في قطاع غزة بلغ المرحلة الخامسة (كارثية) وفق تصنيف «آي بي سي» (IPC) العالمي لانعدام الأمن الغذائي، وهي أعلى درجات التصنيف... «خطر المجاعة».
ووفقاً للتقييم الصادر في مايو 2025، فإن نحو 470 ألف شخص - أي ما يعادل ربع سكان القطاع - يعانون من جوع كارثي، بينما يعيش باقي السكان بين مرحلتَيْ الأزمة والطوارئ الغذائية.
في غزة اليوم، لا تُسمع أصوات الانفجارات وحدها، بل تُسمع معها صرخات أمعاء خاوية، وأجساد ذابلة، وأطفال تتقافز عيونهم بين السماء والأرض باحثين عن كسرة خبز، أو رشفة ماء نظيف، أو جرعة دواء تخفف أوجاعهم.
إن ما يحدث في غزة اليوم ليس أزمة عابرة، بل مجاعة مصطنعة مكتملة الأركان، يصنعها حصار محكم وقصف مستمر منذ أكثر من تسعة أشهر، حتى انهدّت أسقف البيوت وأسقف القلوب معاً، فلم يعد هناك بيت يؤوي، ولا مستشفى يداوي، ولا سوق يبيع شيئاً، يؤكل أو يُشترى.
صور لا يطيقها قلب بشر... أكثر من 1.1 مليون إنسان يعيشون المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، وهي مرحلة الموت جوعاً.
نصف مليون طفل يعانون من سوء تغذية حاد، بعضهم لا يجد حليباً يسد رمقه، فيذوي أمام عيني أمه التي تكتفي بإخفاء دموعها لئلا يزداد وجعه وجعاً.
وفيات الرضع بدأت تتسع، لا بالقنابل هذه المرة، بل بغياب شربة حليب تحفظ الروح متصلة بالجسد.
تقول أم فلسطينية وقد غلبها البكاء «والله ما ذقت طعاماً منذ سبعة أيام، كل ما أريده أن ينام أطفالي من دون بكاء الجوع، حتى لو كان آخر يوم لي في الدنيا».
أي قلب يحتمل هذا المشهد؟ وأي حضارة هذه التي تباهي بتقدمها، بينما يموت أطفال غزة عطشاً وجوعاً ومرضاً؟
لقد دمرت الحرب أكثر من 70 في المئة من المزارع والأسواق ومخازن الغذاء، بينما تُمنع قوافل الإغاثة والمساعدات من الدخول، في خرقٍ صارخٍ للقوانين الدولية كافة. وتشير دراسات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن التجويع يصبح سلاحاً عندما يُستخدم لإحداث ضرر مباشر في المدنيين من خلال تعطيل منظومة الغذاء، وليس نتيجة عارضة للنزاع.
وهناك اتفاقيات عدة تحظر استخدام التجويع كسلاح وتحذّر من وقوعه في أي حرب... اتفاقيات جنيف عام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول، عام 1977 «تحظُر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، خصوصاً ضد المدنيين.
ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عام 1998، يعتبر»تجويع السكان المدنيين عمداً» جريمة حرب، إذا كان يتم عبر منع الإمدادات الضرورية لبقائهم.
وقرار مجلس الأمن 2417، عام 2018، يدين استخدام الجوع كسلاح، ويربط بين الصراعات المسلحة، وانعدام الأمن الغذائي، وخطر المجاعة.
لكن مع الأسف ليس هناك إرادة سياسية لنصرة المظلوم والوقوف بجانبه بسبب أن القوى العظمى تدعم هذه التصرفات اللاأخلاقية...
ما يجري اليوم في غزة يجعل الإنسان يفقد الثقة بالمجتمع الدولي... أي نوع من السلام يريدونه وهم يستخدون سلاح التجويع المجرم بالقانون الدولي!