لفت انتباهي مؤخَّرًا لقاء مع أمين منطقة المدينة المنوَّرة، فهد البليهشي، تحدَّث فيه عن قراره بإلغاء أيِّ مشروع يحمل اسم «ممشى». كان حديثه واضحًا ومنطقيًّا: مَن يمارس المشي يحتاج البدء فور خروجه من المنزل، لا أنْ يُضطَّر لركوب سيَّارته ذهابًا وإيابًا إلى موقع مخصَّص..
كهاوٍ لرياضة الجري، وممارس لها بانتظام، وجدتُ نفسي متفقًا معه تمامًا، ففكرة قيادة السيَّارة من أجل المشي، أو الجري؛ تتناقض مع جوهر هذه العادة الصحيَّة، ناهيك عن سلبيَّات أُخْرى تتعلَّق بهدر الوقت، وزيادة الازدحام المروريِّ، وصعوبة إيجاد مواقف، فضلًا عن الأثر البيئيِّ للتلوُّث؛ وكل ذلك يؤدِّي غالبًا إلى تراجع الحماس، وعدم الممارسة بانتظام.
كتبتُ سابقًا حول هذا الموضوع مقالًا نُشر عام 2014 في «مجلة مكَّة»، التابعة لإمارة منطقة مكَّة المكرَّمة بعنوان: «جدَّة وسياحة الجري»، أشرتُ فيه لآمالي بأنْ تُصمم مدننا بطريقة تجعل المشي والجري جزءًا طبيعيًّا من الحياة اليوميَّة، عبر تحسين الأرصفة والطرقات، وتفعيل أنظمة المرور، واحترام حقوق المشاة.
وبهذا الصدد، اعتدتُ في كلِّ رحلة عمل، أو سياحة أنْ يكون أوَّل شيءٍ أضعه في حقيبتي؛ هو حذاء الجري، حيث إنِّي أستمتعُ كثيرًا بممارسة الجري في السَّفر، ليس كرياضة فحسب، لكن كوسيلة للتجوُّل ركضًا في المدينة التي أزورها، والتعرُّف على معالمها المحيطة بالفندق الذي أسكنه.. ومع تجاربي الطويلة والمتنوِّعة مع «سياحة الجري» تلك، لم أعد أقيس تطور أيِّ مدينة بأبراجها الشَّاهقة، ومراكزها التجاريَّة، بل بأرصفتها، فالرصيف هو المرآة الأصدق لمدى تحضُّر المدينة واحترامها لناسها.
والتالي استعراض وتقييم مختصر لبعض تجاربي مع «الجري» في بعض المدن حول العالم:
أبدأ بواشنطن الكُبْرى، وتحديدًا شمال فرجينيا، والتي عشتُ فيها سنواتٍ طويلة، ووجدتُ فيها مستوًى استثنائيًّا لتنظيم الأرصفة، وشبكة المسارات المخصَّصة للجري، واحترام حقوق المشاة. التجربة ذاتها تكرَّرت في العديد من المدن الأمريكيَّة الأُخْرى: أولويَّة واضحة للإنسان لا للسيَّارات. وفي أوروبا كانت تجارب الجري رائعةً وممتعةً بكافَّة المعايير في جميع المدن التي زرتُها دون استثناء، وآخرها مدينتي مدريد، ولشبونة، مع ملاحظة أنَّ أرصفة لشبونة بحجارتها التقليديَّة قد تكون أقلَّ راحة؛ وتحتاج حذاءَ جري مناسبًا. وفي بريزبن الأستراليَّة، وجدتُ الأرصفة الجيدة، واحترام المشاة، وملحوظتي الوحيدة هي الكآبة والوحشة عند الجري بعد الغروب. أمَّا مدينة الرباط فكان الجري ممتعًا بكلِّ المعايير، خاصَّةً احترام المشاة، وجمال التشجير. خليجيًّا، ركضتُ في كافَّة العواصم، باستثناء الكويت، وأفضل تجربة كانت في مسقط، فالأرصفة جيِّدة، والطبيعة جميلة، وسلوك السَّائقين حضاري ومنضبط. وفي الإمارات، أعجبتني أبوظبي بأرصفتها، وانضباط القيادة، واحترام المشاة، في حين لم تكن الأرصفة في دبي مناسبةً في المنطقة المحيطة بالفندق (قراند ملينيوم)، ونبَّهني حينها بعض الزملاء لوجود مناطق عديدة رائعة مخصَّصة للمشي، يلزم الوصول لها سيَّارة. أمَّا في الدوحة، والبحرين، فكانت التجربة جيِّدة جدًّا.
أسوأ التجارب كانت في القاهرة، وجاكرتا: ففي القاهرة أواخر التسعينيَّات خرجتُ للجري من شيراتون الجزيرة (حينها)، وكان ذلك كابوسًا حقيقيًّا؛ بسبب التلوُّث والإزعاج، وسوء الأرصفة، ورعونة القيادة، وانعدام حقوق المشاة. أمَّا جاكرتا، فكان الأمر شبه مستحيل؛ بسبب الازدحام، وتهالك الأرصفة، وخطورتها؛ ممَّا جعلني أقرِّر العودة للفندق.. وفي الطريق لمحتُ حديقةً مشرعةَ الأبواب بمسارات جميلة، فدخلتها مبتهجًا، واتَّضح لي لاحقًا أنَّها ليست حديقةً بل مقبرة، لتكتمل القصَّة بلحظات رُعب حين لاحقني كلبٌ ضخمٌ أطلقه عليَّ مجموعة شباب كانوا داخل المقبرة... كانت لحظات مخيفة لا تُنسى، مرَّت بسلام -ولله الحمد-.
الخلاصة، ما يميِّز أجمل مدن العالم، ليس وجود أماكن مخصَّصة للمشي، بل انتشار الأرصفة النظيفة، الممتدة، المشجَّرة، والآمنة التي تُمكِّنك من الانطلاق من منزلك مشيًا دون الحاجة لسيَّارة.. المدن الراقية لا تحصر المشي في مواقع محددة، بل تتيحها في كل الأحياء، من قلب المدينة حتى أطرافها، مع منح الأولوية للأحياء السكنيَّة منخفضة الدخل.
ما نحتاجه ليس «ممشى» في مدينة، بل مدينة صديقة للمشاة.
د. سعود كاتب أجمل مدن العالم بدون «ممشى»
مواضيع ذات صلة