: آخر تحديث

حياد لبنان بين الضرورة والاستحالة

1
1
1

د.خليل حسين*

حياد لبنان مطلب عميق الجذور في الحياة السياسية اللبنانية، انطلق بين مرحلة وأخرى وفي مناسبات مختلفة، ذلك منذ إنشاء الكيان اللبناني في العام 1920، مروراً في العديد من المحطات التي افترق فيها اللبنانيون حول طبيعة النظام ومواقفه العربية والدولية، لكن اليوم تحديداً يبدو أن مطلب الحياد بات يقترب من إجماع اللبنانيين عليه بالنظر للمتغيرات الحاصلة في المنطقة وظهور مواقف تطالب بضم أجزاء من شمال لبنان وبقاعه إلى سوريا، بمعنى محاولة إعادة الأقضية الأربعة إلى سوريا حين تشكيل الدول على قاعدة مؤتمري فرساي 1919 وسان ريمون 1920، وهي صورة تقترب من خطر وجودي على الكيان اللبناني كما رسم العام 1920. ومما رفع من منسوب ذلك الخوف، تصريح المبعوث الأمريكي توم برّاك حول إعادة تركيب لبنان الجغرافي وضم بعض أجزائه إلى سوريا. وهو أمر يبدو أن ثمة تشكّل إجماع لبناني على رفضه في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا والخوف من امتداد ما يحصل فيها إلى لبنان، حيث الظروف الديمغرافية المتصلة بديمغرافية بعض الطوائف اللبنانية تلعب أدواراً مؤثرة في هذا المجال. في أي حال، يبدو أن ارتفاع منسوب الخطر الوجودي على الكيان اللبناني بلغ مستويات عالية ما جعل اللبنانيون يتهيبون من ذلك، ويحاولون ولو بطرق مختلفة رفض هذه المقترحات، حتى من الأطراف التي كانت تدعو سابقاً للتحالف مع سوريا وحتى قبولها بفكرة الانضمام إلى سوريا في ثلاثينات القرن الماضي، حيث لاقت فكرة الحياد آنذاك انتشاراً واسعاً على قاعدة رفض الانضمام ومحاولة التوصل إلى مبدأ نظام الحياد في القانون الدولي الذي له شروط قانونية خاصة ينبغي وجودها لتبنيه ونجاحه، أو إيجادها والاعتراف به دولياً. لقد مر لبنان بظروف قاسية جداً في مراحل مختلفة من تاريخه المعاصر، إلا أن الظروف الحالية تشكل خطراً وجودياً حقيقياً، فلبنان حالياً يعاني مشاكل بنيوية لا تعد ولا تحصى، فهو وإن بدأ مسيرة إعادة تركيب السلطة بعد سلسلة الفراغات في المؤسسات الدستورية وغيرها، فهو اليوم ما زال غارقاً في مشاكل عضوية في بنيته، تبدأ في الاقتصاد والإدارة والأمن، ولا تنتهي بضغوط النازحين ومخاطر التركيبة السكانية الذين اقتربوا من نصف تعداد السكان، وهو أمر يعتبر قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة ولأي سبب، وبالتالي الانطلاق نحو تفجير الداخل. في الواقع يشكل حياد لبنان وبرعاية دولية وتحديداً أمريكية وفرنسية، مشروع يمكن حماية لبنان من خلاله، إلا أن المشكلة في الأساس هو تأمين وتوفير شروط عامة من بينها مثلاً، موافقة معظم اللبنانيين عليه، وهو أمر بات شبه مؤمن ولو غير معلن بين الأطراف اللبنانية، وهو يمكن أن يكون مشروعاً قابلاً للحياة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان والمنطقة. إضافة إلى ذلك، أن موافقة الدول الإقليمية ذات التأثير في الواقع اللبناني، ليس متوفراً كما يبدو، فإسرائيل وإيران وتركيا وسوريا مثلاً، لا توافق حالياً على حياد لينان لما سيقيد مواقفها ويحد من تحركاتها ومصالحها. كما أن الأمر ينسحب على الولايات المتحدة التي سترفض ذلك، فيما فرنسا وإن ستوافق بالتأكيد ليس لها القدرة على فرض المشروع، وفي ظل غياب الدول العالمية العظمى والكبرى مثل الصين وروسيا، سيكون الأمر للولايات المتحدة في هذا الموضوع. تمر اليوم معظم دول الشرق الأوسط بمخاض عسير وسط محاولة إعادة تركيب الجغرافيا السياسية لدوله، وفي هذه الحال معظم الدول المعنية بذلك، باتت مهيأة لإعادة التركيب مجدداً، مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغيرها، وغريب المفارقات في هذا الموضوع، لم يشر إلى لبنان في أي خرائط سبق أن نشرت حول التقسيمات الجغرافية وإعادة التركيب والتكوين، حيث النظم التي تم الإشارة إليها هي على قاعدة الفيدرالية كما انطلقت في العراق واليمن مثلاً إضافة إلى المشاريع السورية سابقاً. إذن، ثمة العديد من المؤشرات الصعبة التي يعيش فيها لبنان حالياً، وهو أمر يستدعي البحث بسرعة وجدية عن وسائل تمكنه من البقاء ككيان في المنطقة، ومحاولة التوصل بين بنيه إلى إيجاد الوظيفة الإقليمية التي تسعفه في البقاء كدولة وكيان وسط تحديات لها أول وليس لها آخر. طبعاً ثمة مصاعب كبيرة لا تسعف اللبنانيين في اختيار البدائل الممكنة، فالحياد الذي لم يوافق عليه اللبنانيون سابقاً، ربما بات أمراً مقبولاً وقابلاً للحياة وسط تهديد وجودي للكيان، وهنا لا تكمن المشكلة في موافقة اللبنانيين على الحياد، إنما الظروف الإقليمية لدول المنطقة لن توافق على هذا المشروع باعتبار انه سيكّف يدها عنه، كما أن الأمر ينسحب أيضاً على بعض الدول الكبرى التي إما أن ترفض كالولايات المتحدة، أو ليس بمقدورها الفرض كفرنسا، أو دول غير مهتمة حالياً كروسيا والصين وغيرها. خلاصة القول، إن لبنان بدأ يغادر المنطقة بخطى متسارعة، وضرورات البحث عن حل ينبغي أن يجده أبناؤه، وإذا كان الحياد غير مقبول سابقاً للعديد من الاعتبارات، ربما اليوم يشكل مدخلاً لإعادة ترميم النظام بموافقة ورعاية إقليمية ودولية، رغم المصاعب الهائلة التي سيكون من شبه المستحيل إيجاد مخارج لها.* رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد