قضى نيلسون مانديلا 27 عاماً في السجن، كانت مليئة بالعذاب والقهر والمعاناة، لكنّ كتابه «رحلتي الطويلة من أجل الحرية» يصوّر لنا أن معركته الحقيقية كانت مع نفسه وليست مع سجانيه. كان عليه أن يختار، إمّا الاستمرار في خوض الصراعات الدامية بدعوى الثأر والانتقام، وسيجد أمامه أمة منكوبة مشحونة بالحزن والغضب تستعّر داخلها براكين الثورة، أو أن يقود أمته نحو الخلاص.
في كتابه يقول: «عند خروجي من السجن أدركتُ أنه إن لم أترك كراهيتي خلفي فإنني سأظل سجيناً»؛ لأن السجن الحقيقي ليس مجرد جدران وحراس، ولكنه الكراهية التي تستعر في قلب الإنسان وتحوله وحشاً. ولذلك؛ فإن تجربة نيلسون مانديلا في التعالي على الجراح وقيادة شعب ممزق ومحطم نحو التعافي والتسامح ليست مجرد قصة زعيم خرج من السجن، بل نموذج عملي لإنقاذ وطن من السقوط في دوامة الانتقام والانهيار؛ ولذلك أصبح مانديلا أحد أعظم الرموز العالمية في التسامح والمصالحة، وتمكّن بالصبر والجَلَدْ من تحويل مسار بلاده من الحروب المفزعة إلى دولة تنعم بالعدالة والحرية والتعايش بين أجناس كانت قبل سنوات قليلة تتطاحن فيما بينها.
تجربة جنوب أفريقيا، أثبتت أنه في بناء الأوطان: «لا غالب ولا مغلوب»، وحين تتشكلّ الهوية الوطنية، تسقط على الفور نظرية «الأكثرية والأقلية»؛ فالجميع أبناء وطن وليسوا «كانتونات» متصارعة. أي انتصار يحققه أخ على أخيه هو هزيمة معنوية لكليهما. وأي طعنة يوجهها أخٌ لأخيه في وطنٍ واحد أو استدعاء الخارج للاستقواء عليه هو نكبة وطنية على الجميع. هذا النوع من الانتصار، هو انتصار وهمي، وشعور زائف بالتفوق، وهذا النوع من الانتصار الذي يقوم على إذلال الخصم أو نفي وجوده، لا يدوم؛ لأنه يراكم مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام. يقول مانديلا وهو يتحدث عن «الانتقال من السجن إلى السلطة في الفصل الأخير من الكتاب»: «إن قهر خصمك لا يعني أنك غلبته، بل يعني أنك أرجأت المعركة إلى وقت آخر».
النموذج الفريد الذي صنعه مانديلا في جنوب أفريقيا، ألقى بظلاله على عموم القارة السوداء، نتذكر حروب الإبادة بين «الهوتو والتوتسي» في رواندا وبوروندي، وبلغت ذروتها في مجزرة رواندا عام 1994 التي راح ضحيتها ما يقارب مليون إنسان... لكن هذا المزيج المتفجر من القبائل المتناحرة تمكنّ لاحقاً أن يحقق السلام النسبي، وتخطو بجدية نحو الاستقرار والتنمية. سيراليون، وليبيريا، وموزمبيق وأنغولا كلها شهدت حروباً أهلية مدمّرة خلّفت مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين والمعوقين، ولكنها اليوم دول مختلفة تماماً عن صورتها قبل أقلّ من عقدين من الزمن.
هل يمكن أن تنجح تجربة التعايش السلمي بين المكونات المتخاصمة في العالم العربي؟ أم أنها محكومة بالتناحر والتنافر والاحتراب للأبد...؟ رغم طغيان نبرة التشاؤم، فإن الحقيقة أن العالم العربي نجح كثيراً وغالباً في التعايش وبناء علاقات سلمية بين فئاته المختلفة. بل إن العالم العربي كان في فترات طويلة ملاذاً آمناً للهاربين من موجات الاضطهاد الديني والطائفي الذي شهدته أوروبا، وخاصةً بعد قيام محاكم التفتيش في إسبانيا بعد سقوط غرناطة 1492م.
لكن دوامة الصراعات المتتالية في العالم العربي ودخول أطراف تؤججها، غلّبت منطق التنازع، وجعلت فكرة التعايش غير محتملة. هذا يؤكد ضرورة وجود الدولة، الراعية لأبنائها، تحفظ حقوقهم، وتوفر الأمن لهم، وتضمن لهم العدالة والمساواة، وتنظم العلاقة بين جميع الأطراف وفق سيادة القانون.
لقد كان النقاد والمثقفون العرب يعيبون على المستشرق الغربي برنارد لويس نظرته الاستعلائية للعالم العربي، عموماً، وحين كان يتحدث عن فشل العرب في اعتناق مفهوم الدولة الحديثة، قائلاً: «الدولة كفكرة حديثة لا تستقيم في الثقافة العربية التقليدية»، وإن «المجتمعات في لحظات ضعف الدولة تتعرض للتفكك وعودة إلى الولاءات القبلية والمذهبية».
وهنا، لا يكفي أن ننتقد برنارد لويس، المطلوب تعزيز ثقافة التعايش بين أبناء الوطن، ودفعهم لتنظيم خلافاتهم، وحلها وفق قانون يقوم على العدالة والمساواة ونبذ العنف والتسلط، ومنع الاحتكام للسلاح، أو تمزيق النسيج الوطني، أو تفتيت وحدة البلاد، أو الاستقواء بالخارج.
ما يحتاج إليه كل بلد منكوب لكي ينهض ليس أن يراكم الانتصارات التي تخلّف وراءها فجائع وأحقاداً، وإنما يراكم التسامح، وهو كما يصفه غاندي، يحتاج إلى قوة: «الضعيف لا يسامح. التسامح سمة الأقوياء».