محمد سليمان العنقري
مع ظهور تأثير اقتصادات ناشئة في العقدين الأخيرين وإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد المبني على توجهات اقتصادية كان المتوقع أن يرفع ذلك من التنافسية الصحية عالمياً بين القوى الكبرى والصاعدة، وأن يغلب على توجهات الدول الشراكات والتعاون والتكامل، خصوصاً عندما برزت ظاهرة التكتلات الاقتصادية مثل بريكس وغيرها، لكن وبعد أن أثبتت الاقتصادات الناشئة قوتها وأصبحت هي الأكثر تأثيراً بمعدلات نمو الاقتصاد العالمي ووصلت أكبرها الصين لأن تكون بالمرتبة الثانية عالمياً بعد أمريكا، مع احتمال أن تزيحها لتصبح الأكبر عالمياً خلال عشرة أعوام قادمة أصبحت التنافسية الإيجابية من الماضي وانتقل العالم لمرحلة صراع اقتصادي تستخدم فيه كل الإمكانيات من القوى الكبرى للحفاظ على مكانتها الحالية وفرض هيمنتها لعقود قادمة.
ففرض الرسوم الجمركية من أمريكا على كل شركائها التجاريين ليس إلا أداة من إمكانيات كبيرة هدفها أن تبقي اقتصادها الأكبر والأهم بالعالم، فإذا كان هناك نظرة بأن قرارات الحكومة الأمريكية تحمل بعض التناقضات ما بين توجه داخلي لخفض التضخم بينما تفرض رسوماً ترفع أسعار السلع والمنتجات المستوردة؛ مما يتعارض مع سياسة الفيدرالي للجم التضخم، لكن الحقيقة أن البعد الاستراتيجي للحفاظ على قيادة الاقتصاد العالمي أصبحت أولوية مقدمة على أي اعتبار آخر، بل إن اتخاذ قرارات صارمة بفرض الرسوم الجمركية على منتجات معينة مثل السيارات بقصد إجبار الشركات الأجنبية المصنعة لها بأن تستثمر داخل أمريكا حيث تعتبر السوق الأمريكي أهم أسواقها، ولذلك لم تتردد في الإعلان عن بناء خطوط إنتاج لها داخل أمريكا هو يصب في تحقيق هدف استمرارية الهيمنة الاقتصادية عالمياً، فالإدارة الأمريكية حالياً مشغولة بإعادة هيكلة اقتصاد أمريكا من حيث موازين التجارة الدولية وجذب الاستثمارات بكل الطرق الممكنة.
السعي حالياً هو لعودة أمريكا كي تكون دولة صناعية لأغلب احتياجاتها بدلاً من الاستيراد الذي أوصل عجزها التجاري لأكثر من تريليون دولار سنوياً، فهي تعتبر كل الواردات هي فرص للاستثمار محلياً لكن الطريقة التي تستخدم هي الفرض بالقوة من خلال الرسوم الجمركية ومنح مزايا للمستثمرين بعيدة عن منطق التنافسية الدولية، فإما أن تستثمر عندي وأعطيك تفضيلات خاصة أو افرض عليك رسوماً عالية مرهقة، بينما تواجه الدول التي تستهدفها واشنطن بسياساتها المتشددة وعلى رأسها الصين والاتحاد الأوروبي بأدوات موازية من حيث التأثير النسبي، فالصين لديها أوراق قوة مهمة مثل المعادن النادرة التي تستحوذ على أكبر الاحتياطيات عالمياً وتعتمد عليها الصناعة الأمريكية بشكل كبير، إضافة إلى ريادتها للتجارة الدولية ونجاح مبادرة الحزام والطريق في تمدد التأثير الصيني بالاقتصاد العالمي، أما أوروبا فهي سوق مهم لأمريكا وأيضاً يمكنهم أن يوسعوا من فرض الرسوم المضادة على منتجات أمريكية تأتي من ولايات جمهورية مما يضغط على الإدارة الأمريكية الجمهورية من قبل أنصارها، فهي تخشى فقدان شعبيتها خصوصاً أن العام القادم سيشهد الانتخابات النصفية للكونجرس وتحرص إدارة الرئيس ترامب أن تحافظ على الأكثرية فيه.
العالم يعيش مرحلةً مفصلية في تشكيل القوى الاقتصادية القادمة ليحتل كل منها مركزاً متقدماً في الاقتصاد العالمي بمواجهة من يتصدرون المشهد حالياً، ولذلك إدارة التوازن في العلاقات التجارية والاقتصادية الدولية بالغة الأهمية والحساسية لتجنب أكبر قدر من أضرار هذا الصراع والاستفادة من أي فرص متاحة على مبدأ من رحم الأزمات تولد الفرص.