سؤالٌ يُطرَح: ما أكبرُ الأحزاب وأهمها في الواقع اللبناني الراهن؟ ثمّة من يقول ربَّما أنَّه «حزب الله»، أو من يقول إنَّه حزب «القوات اللبنانية». لكن لا هو حقّاً هذا ولا ذاك.
الحزب الأكبر والأوسع نفوذاً في لبنان منذ ثلث قرن واليوم أيضاً، لا اسم مُعلناً له، إذ لا منحى سياسيّاً أو آيديولوجيّاً موحّداً يميّزه ويتيح تسميته. وإذا شئنا تحديده باسمه الحقيقي، فهو «حزب المرتكبين» الذي مارس، منذ عام 1989 إلى اليوم، مختلف أعمال الفساد والهدر والنهب في هذه البلاد ودفع بها إلى الهاوية. والمرتكبون، ناهبو لبنان، معروفون، ثرواتهم الطائلة وقصورهم وممتلكاتهم في الداخل والخارج تدلّ عليهم، وأساليبهم الملتوية، وخطبهم الطنّانّة، ونفوسهم، ووجوههم، تشهد عليهم...
وهم يعرفون تماماً أنفسهم، فيما هم موزّعون، اختصاراً، على خمس جماعات سياسية كبرى، ولهم فيها ما لهم من مناصب ومكانات، وتدور في فلكهم بضع جماعات سياسية صغرى. وهم متغلغلون كالأخطبوط في كل حنايا السلطة ومؤسساتها وأجهزتها. وهم في العلن، وخصوصاً في الخفاء، النافذون، الآمرون، الناهون. كانوا وما يزالون. تتغيّر العهود، وتتبدّل الحكومات، وهم داخل الحكم وخارجه، أحياء يُرزَقون.
يستحق هذا الحزب الأكبر، المفرد بصيغة الجمع، المتعدّد الآيديولوجيات والتوجّهات، الموحّد الجوهر والغاية، أن تتناوله أطروحات دكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية، لم يقم ويا للأسف أحدٌ بها حتى الآن، لكنّه سيحلّ زمنها يوماً، إذ دوام الحال من المحال... وستكون تلك الأطروحات إضافةً قيّمة على تراث هذه العلوم التي انطلقت في القرن التاسع عشر.
المرّة الوحيدة التي انفضح فيها الحزب الأكبر بشكل سافر، لم تكن بعد ثورة 14 مارس (آذار) 2005 الشعبية، بل إثر انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، حين صار الناس يطردون رموزه من المقاهي والمطاعم والمسارح وكل الأمكنة العامة، فلزمت وجوهه بيوتها، وصار كلامها على الشاشات، بسحر ساحر، فارغاً بلا معنى لا يستمع إليه أحد. لكن مثلما لملم الحزب الأكبر نفسه على أنقاض ثورة 2005، لملم نفسه من جديد على أنقاض انتفاضة 2019، اللتين أضحتا اليوم أثراً بعد عين، وسراباً في سراب. تَرى إلى أين؟
كيف استطاع هذا الحزب خلال أكثر من ثلاثة عقود تعويم نفسه، ليس في الداخل فقط، بل أمام الخارج أيضاً، وما أساليبه وطرق عمله؟ هذه اختصاراً أهمها:
التمويه والتخفي وتعددية الوجوه. التمويه على وجوده الحقيقي وغايته الفعلية. تمارس أطرافه المتضاربة التحالف أو المحاربة السياسية والآيديولوجية بعضها لبعض، كمن يرمي القنابل الدخانية حوله، بينما الغاية الأساسية العميقة هي: صون مكاسب المرتكبين وممتلكاتهم من كافّة أطرافه، وبذل أقصى العناية والخبرة والمكيافيلية للتغطية عليها وإقصائها عن كل محاسبة.
والعديد من التعيينات الأخيرة لا يتناقض كثيراً مع هذه الغاية، إذ قام على مفاوضات بين أطرافٍ، معظمها من الحزب الأكبر نفسه. وما نشهده من ملاحقات الآن، لا يمسّ هذا الحزب وكنوزه المصونة، كونها تستهدف مرتكبين محدثين، كانوا من التسرّع والتلهّف والسذاجة بحيث تستحيل تغطيتهم، فضلاً عن عدم استنادهم إلى قوى حزبية وشعبية وازنة تحميهم، ومن يدري إذا كانت قضيتهم ستصل إلى خواتيمها حقاً؟
ومن سمات الحزب الأكبر التي تشدّ أواصره بقوة، وراء خلافاته الآيديولوجية والسياسية الصاخبة، أن ارتكاباته المتشعّبة مترابطة في ما بينها على مرّ الزمن، ومفتوح بعضها على بعض، بحيث تشكّل كتلة متراصّة واحدة، إن سقط حجرٌ كبير منها، ستليه أحجار أخرى، ويصبح متوقعاً أن تكرّ السبحة. لذلك التضامن الفعلي بين أطراف الحزب لحماية الارتكابات الكبيرة متينٌ للغاية، خلافاً لما هو ظاهر، وهو أقوى بما لا يقاس من جميع المشاحنات الطافية على سطحه، مهما بلغت حدّتها. والشخصيات الأكثر تطرّفاً في عدائها السياسي بعضها لبعض، هي الأكثر تضامناً في ما بينها، في وجه كل من تسوّل له نفسه التعرّض الجدّي لارتكابات هذا أو ذاك منها، مهما علا شأنه. وهي قادرة على تحريك قوى ضاغطة حزبية وشعبية، طائفية ومذهبية، لدعمها، وللتهديد بـ«خراب البصرة» وهدم الهيكل على رؤوس الجميع.
لكن الحزب الأكبر لن يظلّ متماسكاً ومهيمناً إلى ما لا نهاية. سيأتي وقتٌ يُرفَع فيه الغطاء عن الذين دفعوا لبنان إلى الهاوية. «فما من سرٍّ إلا وسيُكشَف، وما من خفيّ إلا وسيُعلَن». وفعلٌ تاريخي جسيم، كتدمير بلاد، لن يبقى بلا مساءلة ولا عقاب. لكن طبعاً ليس في كنف هذا العهد، ولا في ظلّ هذه الحكومة، وطبيعة ظروفهما، وحدود طموحهما.