: آخر تحديث

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

4
3
3

أن نتحدّث اليوم عن الأوطان والدول، والحدود والسيادات، في منطقة المشرق، فهذا يبدو أقرب إلى مناسبات دفن الموتى. وهناك عشرات البراهين التي يمكن تقديمها برهاناً على تلك الخاتمة غير السعيدة، التي يجعلها أقلّ إسعاداً أنّنا في أمسّ الحاجة راهناً إلى أوطان ودول وحدود وسيادات.

تقيم في هذا الواقع عاطفتان متناقضتان: من جهة، ميول سلطويّة حادّة ومتطرّفة تريد عبر الإخضاع والغلبة أن تحكم سواها المغاير لها. ومن جهة أخرى، ميول انفصاليّة تامّة وحاسمة، تستعير اللغة القوميّة العربيّة القديمة في رفض «كيانات سايكس بيكو المصطنعة» لتصل إلى نتائج مختلفة جذريّاً مفادها المطالبة بكيانات أصغر. وقد رأينا، منذ تدخّل «حزب الله» في سوريّا أنّ الحدود الوطنيّة لا تحدّ شيئاً. فالحكمة الرائجة اليوم أنّ الجماعات الدينيّة والمذهبيّة والعشائريّة تعبر الحدود الوطنيّة كي تتضامن مع أبناء دينها ومذهبها وعشيرتها على الطرف الآخر من الحدود الورقيّة.

والعاطفتان قويّتان تقليديّاً بما يكفي ويفيض، لا يؤثّر في ذلك، إلاّ في الحدّ الادنى، الخطاب الآيديولوجيّ للأطراف المعنيّة، بسلطويّيها وانفصاليّيها، ووعودها التحريريّة والتوحيديّة وغير ذلك.

فقوّة الدولة، بوصفها سلطة أمنيّة أساساً، هي ممّا تستعرضه تجارب المشرق بسخاء لا ينافسه إلاّ سخاء الاعتراض عليها من مواقع الجماعات الأهليّة المُستَبعَدة. ففي العراق مثلاً ربّما كان مؤسّس الوجهة هذه الضابط بكر صدقي، الذي أنزل بالأشوريّين مذبحة سميل في 1933، لينفّذ هو نفسه، بعد ثلاث سنوات، الانقلاب العسكريّ الأوّل في العالم العربيّ.

وفي ذروة العصر الآيديولوجيّ، قدّم العراق تجربة أخرى بليغة الدلالة. فمع محاولة انقلاب عبد الوهاب الشوّاف في 1959، وصدام القوميّين العرب والشيوعيّين، قاد أحمد عجيل الياور، زعيم قبيلة شُمّر، مقاتلين أرادوا «الدفاع عن القوميّة العربيّة» مصحوبين بأقاربهم الشمّريّين السوريّين ممّن هبّوا لإنجاد أبناء عمومتهم في الموصل. وكان استطراد ذلك بعد بضعة أشهر ارتكاب الشيوعيّين الكرد مجزرة في كركوك بحقّ الأقلّيّة التركمانيّة.

أمّا في سوريّا، فيُعدّ أديب الشيشكلي الذي نفّذ الانقلابين الثالث والرابع في تاريخ بلده الحديث، المهندس المبكر للحكم «القويّ». لكنّه هو نفسه مَن قصف مدينة السويداء وجوارها، ونكّل بسكّانها الدروز، كما حوّل قمع المعارضين، الذي مارسه حسني الزعيم وسامي الحنّاوي باعتباط وتعثّر، منهجاً متماسكاً ومؤدلجاً.

وبسبب اختلاف الظروف اللبنانيّة كانت تصدر ممارسة «القوّة» المهدِّدة للحياة المدنيّة ولشعور الجماعات بالمساواة، عن «دول» الظلّ أكثر كثيراً ممّا تأتي من الدولة الفعليّة. هكذا، وبذريعة «تحرير فلسطين» أو «مقاتلة إسرائيل»، تعاقب على أداء هذه الوظيفة المقاومة الفلسطينيّة و«حزب الله» اللبنانيّ، وهما بالتعريف طرفان أهليّان.

وغالباً ما كان شعار «الوحدة» تحويراً لشبق القوّة هذا. فسوريّا، أكثر بلدان المشرق افتتاناً بالوحدة، رأت فيها مدخلاً لتكبير نفسها عبر ضمّ بلدان المشرق الأصغر. لكنّ ظروف ما بعد «العدوان الثلاثيّ» في 1956 حملتها على الوحدة مع مصر، لا مع لبنان والأردن، ومع جمال عبد الناصر، لا مع زعماء الطوائف والقرى. هكذا، وبشيء من «مكر التاريخ» على طريقتنا، وجدت سوريّا أنّها صغّرت نفسها بالوحدة ولم تكبّرها، فكان انفصال 1961.

ولاحقاً اتّعظ البعثيّون بالتجربة فاستولوا على سلطة صبغوها بالتوحّش فيما كانوا ينسبون إليها أكثر المهمّات والوعود الآيديولوجيّة تضخّماً وتقديساً. وكان من النتائج الملازمة إمعان المجتمع في التفسّخ الطائفيّ والأهليّ.

فالآيديولوجيا المعلنة، كائناً ما كان الرأي فيها، عاشت دائماً كاليتيم على مأدبة اللئيمين – طلب السلطة وتوحيشها، ونشر الكراهية والميل الانفصاليّ في المجتمع. وقد سبق لستالين أن قدّم لنا درساً بالغ الغنى على هذا الصعيد: فعلى عكس الموقف النظريّ الماركسيّ واللينينيّ حول ذواء الدولة واضمحلالها، اندفع المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ، عام 1939، إلى المطالبة بتعزيز الدولة إبّان الانتقال إلى الاشتراكيّة. هكذا بات التخلّص منها يتمّ من طريق توطيدها! وأهمّ من ذلك أنّ التحوّل هذا جاء مباشرةً بعد «التطهير الكبير» أو «الإرهاب العظيم».

أمّا الدول التي تستثمر في المآسي، كإسرائيل أو إيران أو تركيّا، فأدوارها تندرج في النتائج، لا في الأسباب الغنيّة التي تحتكرها نزعتا السلطويّة والانفصاليّة القُصويان.

ومنذ اليونان القديمة، علّمنا «المعلّم» أرسطو أنّ ثمّة «وسطاً ذهبيّاً» هو «الفضيلة» الواقعة بين «رذيلتين». فالكرم هو الوسط بين البخل والتبذير، والشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهوّر، وهكذا... فهل تكون الفيدراليّة لبلدان المشرق هي ذاك الوسط الذهبيّ بين النزعتين المدمّرتين، أي القوّة المسمّاة وحدة، والانفصال أو التقسيم وحروبه العابرة للحدود؟ ربّما جاز ذلك. لكنّ المؤكّد، على أيّ حال، أنّ الذين يحذّرون من المسّ بالخرائط بحجّة أنّ الاقتتال سوف يندلع لاحقاً داخل المكوّن الواحد، يضعون ما «قد» يحدث في مواجهة ما يحدث ممّا لا يُطاق. وهذا ما لا يرتكبه إلاّ من ينسبون إلى أنفسهم معرفة بـ«حركة التاريخ» يصحبها جهل بما سوف يحصل بعد عشر دقائق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد