علي الخزيم
* من العادات المحببة للكثير بمجالس الضيافة (رجالًا ونساء) حين تُقدَّم لهم مِبخَرة الطِّيب (العود) أن يرفعوا المِبخرة إلى مستوى الأذن تقريبًا يمينًا وشمالًا، ويسمحون لدخان البخور زكِي الرائحة ليتغلغل بثنايا الملابس ويلامس شعر ذقونهم ورؤوسهم ليبقَى عَبِيره زمنًا أطول؛ وتلاحظ أن البعض بالمجالس مِمَّن ألِفوا القوم وعرفوهم عن قرب وتوثّقت العلاقات بينهم يُطيلُون الاستمتاع بطيب البخور لما يقارب الدقيقة من الزمن؛ أمَّا إن كانت مناسبة تجمع أخلاطًا من المعارف وغيرهم فترى المِبخرة تَمُر سريعة بين الجلوس؛ وهذا من آداب المجالس وأصول اللباقة عند الضيوف.
* وهناك ما سُمِّي العود الأزرق ليس للونه بل لِمَا يشبه الزرقة بدخانه المتصاعد حين حَرقه؛ وهذا الصنف من أندر وأجود وأغلى البخور؛ فهو أزكَى وأعطر رائحة من غيره، فيكون تقديمه للضيوف مِن إشارات التكريم وعلامات المحبة؛ ومِمَّا يدعو لبعث المشاعر الطيبة بين النفوس والتقائها على مسار التصالح ومزيد من التقارب الوِدّي بين حين وآخر لمن يُقدّرون ويثمّنون هذه القِيَم النبيلة؛ والمشاعر الراقية؛ وما تَصاعُد دخان البخور إلى هامات الجُلساء إلَّا إشارة وتلميح لأهمية سمو الأخلاق ونقاء الضمائر.
* وخُيّل إلي بإحدى المناسبات السعيدة أن البخور المتصاعد على جنبات رؤوس الرجال يهمس بآذانهم حديثًا ذا أهمية قصوى، وكأنه يستثمر التئام ذاك الجمع للبوح بما يحمله من كلمات أرق وأطيب مِن عطره النفاذ الذي يكاد يملأ جنبات المجلس شذًا فوَّاحًا يشرح الأنفس، ويُنشّط أواصر الألفة، ويُنبّه القلوب لمنافذ التقارب التي تمسح آثار التنافر؛ كدعوة مُتجددة للصفاء وتنقية السرائر، فما هي الرسائل الجميلة التي حاول بخور المبخرة إيصالها؟! قال شاعر:
(اذكرونا مثل ذكرانا لكم
ربَّ ذكرى قرّبت من نزحا)
* سيؤكد لكم البخور همسًا بأن الرفقة الصالحة والصحبة الطاهرة النقية من مقومات بناء الأسرة والمجتمع؛ وإنها من نعم الله على الإنسان، ولن تستقيم خطوط الصداقة وعُرَى المحبة دون تَوافر الوفاء والأمانة والصدق بالتعامل، وأن الخَتَّار الأثيم هو مَن يخون هذه القيم والمبادئ (الخَتْر عند العرب: أقبح الغَدر)، ومثله من يُخضِع علاقاته بالآخرين لجني مكاسب شخصية بالتلوّن والنفاق؛ إلى حدود الغدر والمخاتلة بسبيل الاستغلال البشع لمن يزعم أنه صاحب له، فمن جوهر الصداقة أن يفهمك رفيقك تلميحًا بلا كلمات تفسيرية؛ وأن يكون إخلاصه لك دون مبررات مَنفعيّة حتى ليُخيَّل لك أنه الباقي حولك إن رحل الآخرون.
* وسيُعْلِمك البخور أن ذوي المروءة والخُلُق الرفيع قد ينخدعون بذوي النيّات القبيحة والطَّوِيَّات الفاسدة؛ فالكريم يسمو بأخلاقه حتى ليظن اللئيم أنه غبي يمكن استدراجه، فمن علامات المروءة التواضع وحسن السجايا، وقالوا إن إظهار الانخداع يُعَد من الحلم وسماحة ذوي النُّهَى، وهذا ما يجعل بعض السُّفهاء الانتهازيين يعتقدون أنهم أمام هؤلاء النُّبلاء أكثر ذكاءً؛ فذو الخُلُق الكريم يعطيه مِمَّا في نفسه وليس كما يستحق الدنيء، ونُسِب للفرزدق قوله:
(استمطروا من قريش كلّ منخَدِع
إن الكريم إذا خادعته انخدعا)
(للحديث بقية).