: آخر تحديث

التجارة العالمية تحت ضغط الجغرافيا السياسية

6
5
5

علي محمد الحازمي

تشهد التجارة العالمية في الوقت الحالي واحدة من أكثر المراحل تعقيداً منذ عقود، نتيجة لتنامي التوترات الجيوسياسية وتزايد النزعات الحمائية التي باتت تعيد تشكيل خريطة العلاقات الاقتصادية بين الدول. هذه التحديات لا تقتصر على الرسوم الجمركية أو السياسات التجارية التقليدية، بل تشمل أيضاً صراعات النفوذ السياسي، والأزمات الإقليمية، والتغيّرات في سلاسل الإمداد العالمية.

وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، حققت التجارة العالمية نمواً محدوداً في النصف الأول من 2025، بمعدل يراوح بين 1.3%-2.1% فقط. هذا النمو الطفيف جاء نتيجة ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية وتزايد الطلب في الاقتصادات المتقدمة، في حين عانت العديد من الأسواق الناشئة من ضعف الصادرات وتباطؤ الإنتاج الصناعي، إضافة إلى تقلبات حادة في أسعار الصرف.

تعد التوترات بين الولايات المتحدة والعديد من دول العالم حول الرسوم الجمركية من أبرز العوامل التي قادت إلى حالة عدم اليقين في التجارة العالمية. فالمحادثات التجارية تشهد صعوبة متزايدة بسبب إعادة التفاوض على الرسوم الجمركية، والسياسات الصناعية، وحماية الملكية الفكرية. هذه التوترات دفعت العديد من الشركات العالمية إلى إعادة النظر في مواقع مصانعها وسلاسل التوريد الخاصة بها لتقليل الاعتماد على طرف واحد.

اليوم تحاول دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على سلاسل الإمداد الآسيوية، خاصة في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والطاقة. هذا التوجه يعزز فرص إقامة شراكات جديدة في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا، إذ شهدنا مؤخراً رغبة الاتحاد الأوروبي خلق شراكات إستراتيجية مع دول الخليج. في ذات الوقت هذه التوجهات تضع الأسواق الناشئة أمام منافسة أكبر مع اقتصادات أكثر تقدّماً. بالنسبة للأسواق الناشئة، تشكّل هذه التغيّرات تحدّياً مزدوجاً يتمثل في تراجع الطلب العالمي على صادراتها، وتزايد الضغوط التضخمية بسبب ارتفاع تكاليف الشحن والطاقة هذا بدوره انعكس مباشرة على أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية.

رغم هذه التحديات والظروف، إلا أن هناك بعض الفرص الإستراتيجية. فالتوجه المتسارع نحو تعزيز سلاسل الإمداد الإقليمية وإعادة توطين الصناعات الكبرى أصبح خياراً مهماً للدول الطامحة للاستقلال الاقتصادي. هذا التوجه لا يهدف فقط إلى الحد من المخاطر الجيوسياسية، بل أيضاً إلى دعم القطاعات المحلية وخلق المزيد من فرص العمل. كما أن التجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية تشهد نمواً متسارعاً، إذ ساهم التحول الرقمي العالمي في خلق قنوات بديلة للتجارة التقليدية، ما يسمح للشركات بالتوسع والوصول إلى أسواق جديدة دون الاعتماد الكامل على سلاسل الإمداد التقليدية.

في ضوء هذه التغيّرات، من المتوقع أن تمر التجارة العالمية بمرحلة إعادة هيكلة عميقة خلال السنوات المقبلة. هذا يتطلب من الحكومات والقطاع الخاص تطوير إستراتيجيات جديدة للتكيّف مع الأوضاع المتغيّرة، مثل تنويع الشركاء التجاريين، الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتعزيز السياسات الداعمة للصناعات المحلية.

في الختام، يمكن القول إن التجارة العالمية لم تعد مجرد حركة تبادل للسلع والخدمات، بل أصبحت أداة سياسية وإستراتيجية بيد القوى الكبرى. هذا الواقع يفرض على الدول والشركات تبني رؤى طويلة الأمد؛ لضمان استقرار تدفقات التجارة العالمية، وتحقيق مرونة اقتصادية قادرة على مواجهة الصدمات المستقبلية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد