في أعقاب سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024 تشهد سوريا فصلاً جديدًا من تاريخها المضطرب، إذ لم تعد التحولات مجرد نقاشات نظرية حول مفهومي الوطن والدولة بل تحولت إلى واقع ملموس تفرض فيه قوى جديدة وجودها على الأرض، في صدارة هذه القوى تبرز هيئة تحرير الشام التي تُحكم قبضتها على مناطق واسعة كانت سابقًا تحت سيطرة النظام البائد؛ هذا الواقع الجديد يضيف طبقة غير مسبوقة من التعقيد والتحدي لإعادة تعريف هذه المفاهيم الجوهرية ويضع مستقبل سوريا على المحك.
إنَّ مفهوم الوطن بما يمثله من أرض وهوية ثقافية مشتركة يخضع اليوم لاختبار قاسٍ في ظل هيمنة هيئة تحرير الشام، حيث باتت تُطرح تساؤلات ملحة حول إمكانية الحفاظ على هذا المفهوم الجامع في بلد تمزقه الانقسامات العميقة، والسؤال: هل تستطيع هذه السلطة الجديدة أن تتجاوز أيديولوجياتها الفصائلية لتصوغ هوية وطنية جامعة؟
وإذا ما تحدثنا عن الوطنية كشكل من أشكال الانتماء العاطفي والسياسي، الذي يواجه تحديًا مزدوجًا؛ من جهة، هناك سعي حثيث لإعادة تعريف الوطنية بعيدًا عن الولاء للنظام السابق، وهي خطوة ضرورية لمستقبل سوريا، لكن من جهة أخرى يجب أن تنسجم هذه الوطنية الجديدة مع الواقع الذي تفرضه هيئة تحرير الشام. فهل تتمكن الهيئة من كسب ولاء الشعب السوري بجميع أطيافه؟ أم أنَّ رؤيتها للوطنية ستبقى محصورة بفئة معينة؟ لقد أصبحت صراعات الفصائل المتعددة على مفهوم الوطن أكثر تعقيدًا مع بروز هيئة تحرير الشام كلاعب رئيسي في المعادلة السورية، وهو ما يجعل مهمة بناء هوية وطنية شاملة تبدو شبه مستحيلة في ظل الظروف الراهنة، فالأحداث الأخيرة في الساحل السوري خلال آذار (مارس) الماضي، والاضطرابات الجارية في السويداء ذات الأغلبية الدرزية، بالإضافة إلى استمرار الخلافات مع قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على ثلث الأراضي السورية بما فيها من موارد للطاقة والسلة الغذائية لسوريا، تُعزز هذا التصور وتؤكد مدى عمق الانقسامات.
ولطالما كانت الدولة السورية مرادفًا للسيطرة المركزية المطلقة، حيث تركزت السلطة بالكامل في يد الأسد وعائلته. مع انهيار النظام، انهارت تلك البنية المركزية، ودخلت سوريا مرحلة من الفراغ السلطوي، سرعان ما سارعت لملئه قوى متعددة، كان أبرزها هيئة تحرير الشام التي أثبتت قدرتها الجزئية على فرض القرارات والتحكم في الموارد ضمن مناطق نفوذها فقط، مما منحها سلطة فعلية على الأرض، بالإضافة إلى الدعم اللامحدود من صناع القرار في العالم.
ومع ذلك، يظل السؤال الأهم: هل ستتطور هذه السلطة من كونها سلطة أمر واقع إلى دولة بمعناها المتعارف عليه؟ أي كيان سياسي ذو سيادة يتمتع بمؤسسات قانونية وإدارية تحترم حقوق الإنسان وتوفر العدالة للجميع؟ وأعتقد أن هذا لم ولن يتحقق على الأقل حتى الآن، لأنَّ تفكك مؤسسات الدولة المركزية وظهور سلطات محلية متعددة الأطراف، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، قد أسفر عن ضعف ملحوظ في السيطرة الأمنية والإدارية وانتشار للفوضى في أغلب المناطق المسيطر عليها من قبل الهيئة عبر مؤسسات الدولة الصورية، وهذا يبرز تحديات هائلة في سبيل إعادة بناء دولة مدنية تحمي الحقوق وتضمن العدالة. وعليه، فإنَّ كيفية تعامل هيئة تحرير الشام مع هذه التحديات، ومدى قدرتها على التحول من جماعة مسلحة إلى كيان إداري مستقر، سيحدد مصير سوريا بشكل كبير.
نلاحظ عبر ما يحدث أنَّ الفروق الجوهرية بين مفهومي الوطن والوطنية من جهة، والدولة والسلطة من جهة أخرى، تزداد وضوحًا في ظل سيطرة هيئة تحرير الشام. وهنا تبرز تساؤلات حاسمة: هل ستكون الوطنية التي تروج لها الهيئة شاملة ومقبولة من جميع السوريين؟ الإجابة على هذا السؤال باتت واضحة من خلال الأحداث الأخيرة في الساحل السوري في آذار (مارس) المنصرم، والتوترات المتصاعدة في مدينة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، بالإضافة إلى استمرار الخلافات الجوهرية مع قوات سوريا الديمقراطية. والسؤال الأهم من ذلك: هل ستُصبح السلطة التي تمارسها هيئة تحرير الشام أداة لبناء دولة مؤسساتية عادلة، أم أنها ستكرّس نمطًا جديدًا من الاستبداد وإن كان بوجوه مختلفة؟
مما لا شك فيه أن أهمية الفصل بين الوطنية والدولة تكمن في تجنب الاستبداد وتعزيز الديمقراطية، إذ يجب أن تكون الوطنية أعمق من أي ولاء لسلطة حاكمة، وعليها أن ترتبط بمبادئ المواطنة والحقوق المتساوية. في المقابل، يجب أن تكون السلطة التي تمارسها هيئة تحرير الشام خاضعة للمساءلة وتعمل لمصلحة جميع السوريين، لا فقط لمن ينتمون إلى خطها الأيديولوجي أو العسكري.
لقد فتح سقوط نظام الأسد الباب أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء الوطن والدولة على أسس جديدة، ويُمثل وجود هيئة تحرير الشام على رأس السلطة تحديًا كبيرًا لهذه العملية. السؤال الجوهري الذي يواجه سوريا اليوم هو: هل ستغتنم هذه الهيئة الفرصة لبناء دولة مؤسساتية تحترم التنوع وتضمن سلطة عادلة وشفافة؟ أم أن سوريا ستشهد تحولًا من استبداد إلى آخر لتظل حبيسة دائرة العنف وعدم الاستقرار؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة الحاسمة هي التي ستحدد مسار سوريا في السنوات القادمة. فبناء وطن حقيقي يعتمد على تعزيز وطنية قائمة على المواطنة والحقوق، بينما بناء دولة قوية ومستقرة يتطلب سلطة خاضعة للمساءلة تحترم جميع أبنائها بلا استثناء. إنَّ مستقبل سوريا يعتمد على قدرة الأطراف الفاعلة على تجاوز الماضي المؤلم والعمل نحو رؤية مشتركة لبناء دولة تستحقها تضحيات شعبها.