لا تثق باليد التي تُربّت على كتفك في قاعة الاقتصاد، فقد تكون ذاتها التي تدفعك نحو الهاوية في اجتماع السياسة!
العالم وإن كان على هيئة دول ووزارات ومؤسسات، لا يتحرّك بفعل الشعارات، بل تُحرّكه خيوط خفيّة تُسمّى (المصالح) وتُخيط بالخداع قناعاً لكل قرار، السؤال الذي نخشى أن نطرحه بوضوح: من يستخدم من؟ هل الاقتصاد أداة بيد السياسي، أم السياسة أداة تُساق من عنقها باسم الاقتصاد؟
حين تنظر إلى خريطة العالم، لا ترى حدوداً بل خطوط أنابيب ، لا ترى أعلاماً ، بل عقود تصدير، وحصص استيراد، وموازنات خفية تُكتب في غرف لا يصل إليها ضوء القانون ، لا أحد يُخبرك أن (الاستثمار) قد يكون اسماً مستعاراً للاستعمار، ولا أن الإصلاح الاقتصادي قد يكون غطاءً لعملية قضم بطيء لسيادة الدول.
السياسة تبدو كحلبة، والاقتصاد كالكهرباء التي تضيء مصابيح هذه الحلبة… أو تُفجرها!
يتوهّم الساسة أنهم أرباب اللعبة، لأنهم يصيغون الخطابات ويوقعون القوانين، لكنهم، في الحقيقة، يرقصون على نغمات تمويل لا يملكون منه شيئاً، فالبنك المركزي ليس مستقلاً كما يقول الدستور، والأسواق لا تعبأ بمن يفوز بالانتخابات.
منذ متى لم يكن القرار السياسي رهينة للتمويل؟ منذ متى لم يُصَغ الدستور في بعض الدول بما يتماشى مع شروط الدائنين؟ من يجرؤ أن يقول إن الحرب تبدأ فقط عندما يغضب الحاكم؟ الحرب تبدأ حين ترى مصانع السلاح أن المخزون راكد، وتنتهي حين تُملأ المخازن مجدداً وتُحسم الفوائد.
السياسي يرفع صوته، لكن الاقتصاد يرفع الفاتورة، الأول يهدّد بالتصعيد، والآخر يحسب كم سيكلف هذا التصعيد من أرواح وأرباح؟
لا توجد قرارات طاهرة، كلها مُلوثة بحبر الميزانيات ومصالح النُخب. تلك النخب التي لا تظهر على شاشات التلفاز، لكنها تملك الأسهم في الشاشات ذاتها.
في مجلس السياسة، يتحدثون عن الكرامة الوطنية، وفي المجالس الاقتصادية، يتحدثون عن الجدارة الائتمانية. أيّ الكلمتين تصمد أمام عاصفة الديون؟ حين يُخيَّر الحاكم بين كرامة بلا دعم، ودعم مشروط ببيع الوطن جزءاً فجزءاً… هل تكون السياسة سيّدة القرار؟ أم تُصبح راقصة بائسة في بلاط الصناديق السيادية؟
انظر إلى دولة تخوض ثورة. من يدعمها؟ ومن يُجفف منابع تمويلها؟ الاقتصاد يقرر من ينجو، لا المظاهرات. الحشود تصرخ، لكن البنوك تهمس، وصوت الهمس أقوى لأن فيه الأموال، وفي الأموال تُصاغ المصائر.
بعضهم يقول إن الاقتصاد تابع للسياسة، كمن يقول إن النار تطيع من أشعلها. لكنها تتمدد من تلقاء نفسها، تتوحش، وتلتهم من أطلقها إذا لم يُحسن السيطرة. كذلك الاقتصاد، حين يُفتح الباب أمام المضاربات والانفتاح الأعمى، لا تعود الحكومة هي من يُدير الدولة، بل صناديق الاستثمار والصفقات العابرة للحدود.
اسأل اليونان عن تجربتها. اسأل لبنان، وزيمبابوي، وفنزويلا، وحتى بريطانيا حين ظنت أن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي هو استعادة للسيادة، فاكتشفت أن السيادة لا تُطبَع على جواز السفر، بل تُرسم على الجداول الاقتصادية والبورصات.
السياسة تصوغ المشهد، لكن الاقتصاد يقرّر من يخرج حياً من المسرح. والسياسي الذكي ليس من يُخفي عجز الميزانية، بل من يعرف كيف يخفي أنه أصبح هو ذاته جزءاً من الميزانية. يُباع ويُشترى، يُستثمر فيه كما يُستثمر في النفط والذهب.
وفي عالم تسود فيه شركات تتفوق ميزانياتها على دول كاملة، من الذي يُصدر القرار؟ حكومة منتخبة من الشعب؟ أم مجلس إدارة لا يعرف معنى التصويت الشعبي، لكنه يعرف جيداً كيف يشتري أصوات السوق؟ الديمقراطية قد تصنع رئيساً… لكنها لا تصنع سعر النفط. والبرلمانات قد تصرخ… لكنها لا تملك حق التفاوض مع صندوق النقد.
كلما ازداد تعقيد الاقتصاد، ازداد ضيق السياسة. وكلما استقرت مؤشرات السوق، خفت صوت الشعوب. السياسة في زمننا هذا تُحكم من خلال معدلات الفائدة، والتصنيفات الائتمانية، واتفاقيات التجارة. السياسي إذا أراد تمرير قرار، لا يسأل حزبه… بل يتصل بمموّليه. ليس ليتشاور، بل ليأخذ الإذن؟
هل تتذكر حين قيل لك أن البنك أداة للادخار؟ الآن البنك يقرر من يحكم ومن يسقط. هل نسيت حين قالوا إن العملة مجرد وسيط للتبادل؟ الآن العملة هي من يُحدد درجة خضوعك للنظام العالمي، ومدى قدرتك على رفض الإملاءات.
في خضمّ هذا كله، يظهر سؤال عارٍ كالسيف: من يستخدم من؟
الإجابة ليست ثابتة. أحياناً السياسة تجرّ الاقتصاد إلى معارك خاسرة، كما في الحروب العقائدية والمقاطعات الرمزية. وأحياناً الاقتصاد يخنق السياسة حتى تتحوّل إلى مجرد ديكور إعلامي ، قشرة تزيّن الفقر، وتُبرر الجوع. في كلا الحالتين، الشعب هو الذي يُستخدم، وليس هو من يستخدم.
ربما حان الوقت لنعترف أننا نعيش في عالم بلا سيادة حقيقية، لأن السيادة لا تعني أن ترفع علماً… بل أن ترفع رأسك دون إذن السوق. والسيادة لا تُقاس بعدد الجنود، بل بعدد القرارات التي يمكن أن تتخذها دون أن ترتجف عملتك أو يُخصم تصنيفك الائتماني.
الاقتصاد في يد السياسة يُولد النهضة، أما السياسة في يد الاقتصاد فتُنجب الاستعباد المقنع. من يستخدم من؟
يعتمد على من يملك الشفرة الأخيرة في التفاوض: هل هي القنبلة؟ أم القرض؟ هل هي الخطب؟ أم الأسعار؟
والأدهى من هذا كله… أن من يستخدم الاثنين معاً ليس بشراً ، بل خوارزميات.
تُبرمج القرار، وتشتري الأسهم، وتُحدد الفائز قبل أن يُدلي الناس بأصواتهم.
في النهاية، اللعبة واحدة، ولكن الأدوار تتبدل. والسؤال لا يموت… بل يزداد حدّة:
من يستخدم من…؟ أم أننا جميعاً… مُستخدمون؟