تفاجأت بطبيب الأسنان، الذي كنت أراجعه وأنا في زيارة لإحدى الدول العربية، وهو يخبرني بأنه رفض الهجرة إلى أي دولة غربية لأنه اتجه للتدين، ولا يريد العيش في دول علمانية أفرادها من الكفار والملحدين، ولا يشيع فيها سوى الفجور والفساد والموبقات. استنتجت من حديثه أنه لا يملك عن العلمانية إلا فهمًا ضحلًا، وأن توجسه منها خيفة وهلعًا يقف وراءه افتراض أنها ليست إلا كفرًا بالدين وتحقيرًا له، أو أنها إنكار الله والتجديف عليه. ويا ليت كان هذا الخوف مبنيًا على معرفة دقيقة وشاملة لتفهمنا الأمر، ولكن أن يكون الخوف والهلع بسبب الجهل، أو بسبب المفاهيم الخاطئة فهذه هي المصيبة.
ليس مصادفة أبدًا أن تنتشر هذه الفكرة المغلوطة لمفهوم العلمانية في وعي العديد من الناس وتتغلغل فيه. فهذه الفكرة المغلوطة من قام ببثها ونشرها بين أفراد المجتمع هم بعض المشتغلين بالدين ليبثوا في نفوس الناس الرعب من العلمانية والهلع منها، ويوهمونهم بأنها ليست إلا صورة من صور الإلحاد وإنكار الإله، أو أنها شكل من أشكال الكفر بالدين، وإنكاره، وهجره، والبعد عنه. وهم بذلك يرمون إلى ترويع البسطاء من الناس من العلمانية، وتحذيرهم منها، وتشكيكهم في نوايا من يدعون إليها. والهدف من ذلك هو خلق مجتمع معادٍ للعلمانية، مرتاب منها، مرتعب من نواياها، وأهدافها لتخلو الساحة لتأسيس حكومة دينية.
ولكن مما لا يعرفه الكثيرون أنَّ المجتمع العلماني لا يطرد الدين من بيته، ولا يوصد الأبواب دونه. بل بالعكس، يتربع الدين في المجتمع العلماني على مكانه المنطقي والشرعي المعروف. فالعلمانية لا تتعارض مع الانتماء لدين معين، لأن الدين ليس نقيضًا للعلمانية، فنقيض العلمانية ليس الدين، بل هو الحكومة الدينية. إن أهم ما تمتاز به هذه الدولة الدينية، هو أنها دولة قائمة على العنف والقمع، تخنق أفرادها خنقًا، وتكتم أنفاسهم، فلا يسود فيها إلا لون واحد فقط، وهو لون الدين الحاكم. فهي لا تعترف بأي دين آخر، ولا يمكنها أن ترى، إلا دينها باعتباره هو الدين الحق، والحقيقة المطلقة التي لا بد على جميع العالم اتباعها مرغمًا.
رجال الدين في هذه الدولة الدينية يعينون أنفسهم أوصياء على أفراد المجتمع، فيلاحقونهم، ويفرضون إملاءاتهم في مأكلهم، ومشربهم، والكتب التي يقرؤونها، والأفلام التي يشاهدونها، وماذا يكرهون، وماذا يحبون. ويعطي هؤلاء المتفقهون لأنفسهم الحق في مراقبة الناس، وملاحقتهم في طعامهم، وشرابهم، ولباسهم، وعلاقاتهم، وكل شؤونهم. فيشعر الفرد بأنه مقيد، محكوم في حركاته، وسكناته، ومعيشته. وهكذا، يقومون بتحويل المجتمع برمته إلى مجتمع متواطئ معهم في معاداتهم للآخرين من ديانات ومعتقدات أخرى، وفي تحكمهم بالفئات المستضعفة كالنساء والأطفال. وهذا التواطؤ يكون في شكل صمت مطبق تجاه الانتهاكات لحرية الفرد التي يرتكبها هؤلاء المتفقهون بالدين، الذين يقومون بوضع تفاسير للدين وتعريفات للأخلاق، والآداب، والسلوكيات المقبولة والمرفوضة. فيعاقبون الأفراد المخالفين لتعريفاتهم الموضوعة، أو الأفراد الذين يخرقون مبادئ الدين الذي خلقته الدولة الدينية، عقابًا قد يكون على مجرد الظن والشبهة. فدين الدولة الدينية دين مخلوق، لا يشبه الدين الأصلي الذي نبت وانبثق منه. وهكذا يتقمص المتفقهون دور المشرع، ودور الشرطي، ودور القاضي، ودور الجلاد في آن واحد.
فالعلمانية غالبًا ما ترتبط بالابتعاد عن الأطر الأخلاقية التقليدية المتجذرة في الدين. فبعض المشتغلين بالدين يرون أن العلمانية تؤدي إلى النسبية الأخلاقية، وزيادة المادية، وانتشار قيم مثل الحرية الجنسية أو الاستهلاكية. فحتى في دول الغرب، العديد من القادة الإنجيليين يصنفون العلمانية كتهديد كبير لإيمانهم، وغالبًا ما يصنفونها ضمن المخاطر التي تهدد الثقافة الدينية الشعبية. فالجماعات الدينية في المجتمعات التي يهيمن فيها الدين على الحياة العامة تخشى أن تهمش العلمانية نفوذها، وتجفف منابع ثرواتها، وتحجم دورها في المجتمع.
العقل البشري قد صمم ليميل إلى الولاء لمجموعة معينة قد تكون قبيلة، أو دينًا، أو طائفة، أو جماعة قومية، أو قرية، أو مدينة، وغيرها. ولذلك فالمجتمعات البشرية مجتمعات قبلية، تفضل العيش في جماعات صغيرة متماسكة، حيث يزداد الولاء والثقة والتعاون داخل المجموعة مما يمنحها القدرة على مواجهة التحديات الخارجية مثل الصراعات مع الجماعات الأخرى. هذه المجتمعات غالبًا ما تقاوم التغييرات التي تتحدى الهويات الراسخة، وتتحدى كذلك هياكل السلطة داخل هذه المجتمعات. ولذلك فإن هذه المجتمعات التي اعتادت على الامتياز الديني، وعلى الهيمنة الدينية تعتبر العلمانية تهديدًا لها، لأن العلمانية تدعو إلى المساواة في التعامل مع جميع أفراد المجتمع، وعدم محاباة أي فرد على آخر على أي أساس ديني، أو طائفي، أو قومي، أو مناطقي.
فالخشية من العلمانية يقف وراءها فكر يرى في الدين إحدى الهويات التي يحملها الفرد، والتي تكسبه الشعور بالانتماء لمجتمع ديني، وتضفي التماسك الاجتماعي على المجتمع. هذا الفكر المعادي للعلمانية يرى أن العلمانية بفصلها الدين عن الدولة تشكل تهديدًا للهوية الدينية للفرد والمجتمع، وأنها تقوض النسيج الاجتماعي الذي يربط الأفراد ببعضهم من خلال امتلاكهم لهوية دينية موحدة. ولهذا فإن هذا الفكر الديني يعمل على تشويه فكرة العلمانية، وعلى تنفير الناس منها بوصمها بأنها ابتعاد عن الأطر الأخلاقية، وأنها تركيز على النسبية الأخلاقية، وإشاعة للحرية الجنسية، وعبادة للمادة.
وقد أدى تطبيق العلمانية تطبيقًا صارمًا في بعض الدول من أجل إدارة التعددية الدينية إلى ردود فعل غاضبة وعنيفة، وإلى شيوع تصورات بأن الدولة تعادي الدين وتحاربه، وأنها لا تحترم خيارات الفرد وحريته. فقد قامت بعض الدول بسن قوانين وسياسات تحظر بموجبها الرموز الدينية، وتقيد استخدامها في دوائر ومؤسسات الدولة، والمدارس الحكومية، والأماكن العامة من أجل الحفاظ على الحياد الديني. فقد حظر القانون الفرنسي على موظفي الخدمة المدنية، والشرطة، والمدرسين، والطلبة، على حد سواء في المؤسسات التعليمية، ارتداء الرموز الدينية أثناء تأدية عملهم الوظيفي، ويشمل ذلك الحجاب الإسلامي، والنقاب، والبرقع، والصلبان المسيحية الكبيرة، والطاقية اليهودية، والعمامة السيخية، وغيرها. وقد حذت حكومات أخرى حذو فرنسا في ذلك، مثل إقليم كيبيك الكندي، وبلجيكا، وبعض الولايات الألمانية، والسويسرية، والإسبانية. كما حظرت النمسا، وهولندا، والدنمارك تغطية الوجه وبضمنها ارتداء النقاب الديني في الأماكن العامة. وتبرر هذه الدول اتخاذ هذه الإجراءات على أنها تدابير ضرورية لضمان حياد الدولة وعلمانيتها في المجال العام، وخاصة في التعليم ومناصب الدولة. إلا أن الكثير من الأفراد ينتقدون مثل هذه الإجراءات، ويعتبرونها انتهاكًا لحرية الفرد وحقوقه.
ولكن هذه الدول تبرر هذه الإجراءات بأنها ضرورية من أجل المحافظة على الديمقراطية. فالمجتمع العلماني لا يجعل الدين، وطقوسه، واحتفالاته الشغل الشاغل لأفراده، وهمهم الذي يسكنهم ولا يفارقهم، بل ينتقل الاهتمام إلى إحياء سلطة العقل بدلاً من سلطة العاطفة، ويبدأ المجتمع بالتركيز على العلم، والتكنولوجيا، والتنمية، والتطور، ونشر المعرفة، والثقافة، وحل الأزمات، والمشاكل الحياتية التي تواجه المجتمع. فعلمنة المجتمع ضرورية لتعزيز قيم الديمقراطية والعدالة فيه، ولحفظ حقوق المعتنقين لجميع الأديان والمذاهب، ولضمان حق الفرد في إظهار معتقده الديني، وممارسة طقوسه الدينية، بما لا يصطدم بحرية أفراد المجتمع الآخرين، ولا يعتدي عليها، وبما لا يؤثر على الدولة، وأسلوب الحكم فيها، وطريقة إدارتها، وتمشية شؤونها. فيصبح المجتمع ملكًا لجميع أبنائه، المؤمن منهم والملحد، المسلم، والمسيحي، واليهودي، واليزيدي، السني، والشيعي، المرأة، والرجل، الصحيح، والمريض، السوي، والمنحرف، وغيرها من التصنيفات والخانات. عندها فقط يصبح جميع أفراد المجتمع سواسية أمام القانون، يتمتعون بنفس الحقوق، وتقع عليهم نفس الواجبات، دون أن يكون للانتماء الديني، أو السياسي، أو الحزبي أي ميزة، أو فضيلة. وبهذا الشكل نرى أن العلمانية تناصر حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليًا، وتغلبها على أي دين، أو عقيدة.
إنَّ الدعوة إلى علمنة المجتمع لا تعني خلق مجتمع ملحد أو كافر بالدين، ولا تهدف إلى نشر الإلحاد، والزندقة، والفجور، والموبقات في المجتمع، وإنما تعني خلق إطار مجتمعي يؤسس لعدالة اجتماعية، يمنح الفرد بموجبه خيارًا حرًا في حياته، في كل المجالات الدينية، والأسرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. فالعلماني قد يكون فردًا متدينًا، ولكنه يؤمن بأن علاقته بالله هي علاقة شخصية، وأن الدين ينبغي أن يبقى بعيدًا عن الشأن العام، وعن إدارة الدولة، وعن تشكيل الحكومة، وعن التعليم وبرامجه، وألا يكون الدين أساسًا لتقييم الأفراد، والمفاضلة، أو التمييز بينهم. وهكذا، فإن علمنة المجتمع هي عملية اجتماعية تهدف إلى جعل الدين شأنًا شخصيًا بحتًا، وليس شأنًا عامًا. فالعلمانية، كمبدأ، أو كفكرة سياسية تسعى إلى فصل الدين عن شؤون الدولة، والمؤسسات العامة الأخرى، بما يضمن عدم تدخل الجماعات الدينية في شؤون الحكومة. وتهدف العلمانية في جوهرها أيضًا إلى بناء مجتمع يعامل فيه جميع أتباع الديانات والمعتقدات على قدم المساواة أمام القانون، دون محاباة أو تمييز.