منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، تصدّرت العدالة الانتقالية الخطاب السياسي والأخلاقي لدى طيف واسع من السوريين، بوصفها الجسر الضروري للعبور نحو دولة القانون والحرية، وركيزة أساسية لطيّ صفحة الاستبداد والمحاسبة على الجرائم والانتهاكات. ومع توالي سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، تفاءل كثير من السوريين بقرب سقوط نظام الأسد، وبدأ الحالمون بوطن حر وعادل يتهيّأون لليوم التالي، تُستعاد فيه الحقوق، وتُرد الكرامات، ويُحاسب فيه الجلادون. غير أنّ تلك اللحظة، حين أتت أخيراً، لم تشبه ما تخيّلوه، ولم تكن سوى خذلان متكرر، لا للضحايا وحدهم، بل لفكرة العدالة ذاتها. فما تلا سقوط نظام بشار الأسد لم يكن على قدر تلك التطلعات، فبدلاً من السير بخطى ثابتة نحو الإنصاف، بدا أنّ الحقيقة نفسها تُدفع إلى الظل، إمّا باسم "التوافق الوطني"، أو تحت ذرائع "الانتقال الآمن" و"الحفاظ على الاستقرار".
وما إن تراجعت هذه القضية عن سلّم الأولويات، حتى تسللت خيبة الأمل إلى نفوس الضحايا، وشيئاً فشيئاً، بدأت بعض الأصوات تبرّر الاقتصاص الفردي، أو تأخذ الحق باليد، تحت ذريعة أنّ العدالة المؤسسية تأخّرت كثيراً. وما زاد الطين بلّة أنّ النظام البائد قد حرص، بوعي أو بدونه، على توسيع رقعة المتورطين في الجرائم والانتهاكات، بحيث صار من الصعب، عددياً وأخلاقياً، مقاضاة كل من لوّث يديه بدماء الأبرياء أو شارك في آلة القمع. وهكذا، باتت المحاسبة الشاملة حلماً بعيد المنال، وأصبح التفكير في الاقتصار على القيادات العليا والأجهزة الأمنية الأساسية يبدو واقعياً، لكنه عند أول تماسّ مع الحقيقة، ينهار كلياً أمام حجم الفظاعات.
فاليوم، وبعد انقضاء أكثر من سبعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، أصبح من الصعب على الضحايا أن يتقبّلوا رؤية الجلادين السابقين يعيشون بينهم كأنّ شيئاً لم يكن. ومن الأصعب أن يُطلب منهم القبول بالمصالحة قبل أن يُقتصّ لهم. ومع أنّ بعض الأصوات، محلياً، تروّج لأولوية الأمن على العدالة، ولضرورة طيّ الصفحة من أجل الاستقرار، إلا أنّ هذه الدعوات تغفل حقيقة مركزية، وهي أنّ لا أمن بلا عدالة، ولا مصالحة بلا اعتراف واعتذار وعقوبة تتناسب مع الجُرم.
كل تلك المفارقات تُعيدنا إلى جوهر السؤال: أي سورية نريد؟ هل هي سورية ما بعد الأسد بوصفها مرحلة سياسية، أم سورية ما بعد الاستبداد بوصفها ولادة جديدة لوطنٍ يضمد جراحه بعد أن واجه أعتى آلة قمع عرفها العصر الحديث؟ إنّ الجواب عن هذا السؤال لا يكون بشعارات المصالحة المجوّفة، بل بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الحق والعدل والكرامة، لا على منطق الغلبة والمقايضة.
فالعدالة الانتقالية، بما هي مشروع للحق والحقيقة، لا يمكن أن تتحقق في ظل تجاهل الضحايا أو إنكار وجودهم أو المساومة على آلامهم، فهي تبدأ من الاعتراف الصريح بما حدث، ومن مساءلة الجناة، أياً كانت مواقعهم وانتماءاتهم، وتصل ذروتها حين يشعر السوري، كفردٍ ومواطن، أنّ حقوقه ليست منّة من أحد، بل ركناً من أركان العقد الاجتماعي الجديد. وهذا ما كشفته تجارب بلدان عديدة مثل جنوب أفريقيا ورواندا والأرجنتين، فما تحقق فيها لم يكن عدالة بمفهومها الصارم، بل مصالحات منقوصة، استُخدمت لتلميع صور الحكومات الجديدة أو تطبيع وجود النخب القديمة، وهو ما أثبتته تجربة لبنان أيضاً، والتي قُدّمت أحياناً كنموذج للمصالحة السريعة، فطيّ صفحة الماضي بلا عدالة حقيقية، يُنتج مستقبلاً معلّقاً على حبال الذاكرة المكسورة. فالمصالحة الحقيقية لا تكون بطمس الوقائع، بل بحفظها وإعلانها وتضمينها في السردية الوطنية الجامعة، لئلا تتكرر المجازر والانتهاكات، ولئلا تنشأ أجيال جديدة تُربّى على الحقد والانتقام. فالسوريون اليوم لا يطلبون المستحيل، بل فقط دولة تصون الحقوق، وتُحاسب المجرمين. وهذه هي البداية الحقيقية لوطنٍ جديد، يُقال فيه: لقد طوينا صفحة الظلم، لا لأننا نسيناه، بل لأننا حاسبناه.
فاليوم، ليس مطلوب اختراع عدالة مثالية، بل بناء مقاربة سورية واقعية، تنطلق من الحقائق المرّة ولا تُنكر المعادلات القائمة، لكنها أيضاً لا تساوم على المبادئ الأساسية. وقد يكون المدخل العملي لذلك هو تبنّي عدالة تدريجية ومتعددة المستويات، تبدأ بتوثيق الجرائم والاعتراف بالضحايا، وتُعلي من شأن الحق في الذاكرة، وتفتح المجال أمام المساءلة الرمزية حين تتعذّر المحاسبة القضائية، مع التركيز على القيادات والأوامر المركزية في الجرائم الكبرى، بالتوازي مع آليات محلية للمصالحة المشروطة، تُراعي تعقيدات النسيج الاجتماعي وتمنع انفجار النزاعات الكامنة.
ومن دون ذلك، فإنّ أي تسوية ستكون مجرّد صفقة بين جلّاد الأمس وحاكم اليوم، على حساب الضحية، التي يُطلب منها مجدداً أن تضحّي من أجل الوطن، في مشهد يُعيد إنتاج المأساة باسم الوطنية الزائفة.
ختاماً، يمكن القول إنّ التباطؤ في إرساء معالم العدالة الانتقالية لا يعكس فقط عجز النخب السياسية الجديدة عن الارتقاء إلى مستوى التضحيات، بل يكشف أيضاً عن استمرار ذهنية الهيمنة والمساومات التي حكمت البلاد لعقود، وإن بثوب جديد. فالعدالة لا يمكن أن تكون ترفاً يمكن تأجيله إلى حين استتباب الأوضاع، بل هي شرط تأسيسي لأي سلام حقيقي، ومفتاح بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. وكل يوم يمرّ دون مكاشفة، دون محاسبة، دون اعتراف، هو يوم يُعمّق الجراح ويعيد إنتاج المظلومية، ويزيد من احتمالات الانفجار القادم. وحتى يأتي يوم تُولد فيه مقاربة سورية ناضجة، تُعيد تعريف العدالة من داخل المأساة، وتُلائم بين حقوق الضحايا ومتطلبات الانتقال، سيظل السوريون يدورون في حلقة مُفرغة، عنوانها: وعود العدالة وخذلان الحقيقة.