: آخر تحديث

هل أوروبا بحاجة إلى تجميل صورتها؟

2
1
1

سؤال ظاهره استفهام، وباطنه إدانة، يُطرح بيننا كلما وقفنا ـ نحن أبناء العواصف والأوطان المتعبة ـ أمام أبواب أوروبا التي فُتحت ذات يوم، لا حبًا بنا، ربما، بل حبًا بالقيم التي تأسست عليها تلك الجغرافيا الهادئة التي طالما وُصفت بالباردة. لكن، في المقابل، أيّ دفء هذا الذي قوبلنا به، نحن الفارين من اللهب، من القسوة، من التخلي، من تاريخ أكل نفسه بنفسه؟

لست أظن، من موقعي كإنسان يرقب الأحداث لا كقاضٍ، أن أوروبا كانت بحاجة إلى تجميل صورتها. هذه القارة التي تنوء بحمولة قرون من الحروب والموت والدم، لم تعد بحاجة إلى تلميع مرآتها أمامنا، نحن الذين ما زلنا نتعثر في صياغة معنى العيش، فضلاً عن صياغة معنى العدل. لم تكن أوروبا بحاجة إلى أن تبرر أفعالها، ولا أن تلون صورتها لتبدو أكثر إشراقًا.

ما فعلته ببساطة ـ بالرغم من ما يمكن أن يُقال عن دوافعه السياسية أو الأمنية أو حتى الديموغرافية ـ كان فعلاً إنسانيًا، لم يجرؤ عليه كثيرون، خصوصًا من أولئك الذين يتحدثون ليل نهار عن الأخوة، وعن وحدة الدم، وعن العروبة التي غدت في زمننا راية تُرفع في المناسبات، وتُنكس في المحن.

ولعل ما يُعمق المفارقة، أن هذا الفعل الإنساني الذي قامت به دول الاتحاد الأوروبي لم يكن عملًا سهلاً أو مجانيًا. لقد دفعت تلك الدول أثمانًا باهظة: اختلالات داخلية، صعود اليمين المتطرف، توترات اقتصادية، تغيرات ثقافية عميقة. ومع ذلك، لم يُغلق الباب، ولم تُسل السيوف، ولم تُقم المعسكرات في الصحارى.

فلماذا نصر على أن نصف هذا الاحتضان بأنه "تجميل صورة"؟ أهو العمى الأخلاقي الذي أصاب بعض النخب؟ أم هو مرض المقارنة الدائمة التي لا تلد سوى جلد الذات، أو تمجيد الفشل؟

حين تتأمل وجوه اللاجئين في محطات القطارات، على أرصفة العواصم الأوروبية، في صفوف الانتظار الطويلة أمام مكاتب اللجوء والدوائر الحكومية، ستجد في عيونهم حكايات لا يكتبها التاريخ الرسمي. هناك رجل هرب من مدينته التي ابتلعها برميل متفجر، وامرأة فقدت زوجها وأطفالها تحت ركام حرب عبثية، ومراهق نجا من قارب مطاطي في عرض المتوسط، ليجد نفسه أمام جهاز بصمة يسأله عن اسمه، لا عن أحلامه.

كل أولئك جاءوا إلى أوروبا، لا حبًا في طقسها الرمادي، ولا انجذابًا لأناقة شوارعها، بل هربًا من الموت الذي صار مادة يومية في بلادهم. جاءوا لأن بلادهم لفظتهم كما تُلفظ الأحجار الزائدة في معمار متداعٍ.

هؤلاء الذين جاؤوا محمّلين بالحنين والخذلان، لم يجدوا في أوطانهم مكانًا للحياة، فاختاروا الغربة. نعم، الغربة بكل ما فيها من قسوة، كانت أكثر رحمة من حضن الوطن.

فهل يكون من الإنصاف أن نرشق هذه البلاد ـ التي فتحت أبوابها ـ باتهامات ساذجة، فقط لأننا لا نريد أن نرى الحقيقة في عيوننا المنكسرة؟

تبدو الخرائط أحيانًا كخطأ فيزيائي، فالانتماء الحقيقي لا تصنعه الحدود، بل تصنعه الكرامة. وما فائدة أن تنتمي لوطن يسحقك، يسلبك صوتك، يضعك في زنزانة كلما نطقت، ثم يحدثك عن الشرف والسيادة؟

لقد عرف اللاجئ ـ بعد أن فقد كل شيء ـ أن الوطن ليس فقط مكانًا نولد فيه، بل مكانًا نحترم فيه كإنسان.

ولعل هذا ما فهمته أوروبا: أن هذا الإنسان، أيًا كان لونه أو دينه أو لغته، يستحق فرصة جديدة، ولو متأخرة، ليستعيد فيها إنسانيته.

ومع أن التجربة لم تكن مثالية، إلا أنها تبقى تجربة قابلة للتأمل، والمقارنة، والمساءلة. وما قام به الغرب من خطوات، بالرغم من تحفظ البعض عليها، لم تقم به دول شقيقة في الجغرافيا واللغة والتاريخ.

كم من العواصم العربية التي امتلأت بالبذخ والعمارات اللامعة، أغلقت حدودها في وجه الجياع من أشقائها؟

كم من الأبراج التي شُيدت بأموال الغاز والنفط، عجزت عن أن تُشيد ملجأ واحدًا للمنكوبين؟

كيف يمكن لأمة أن تدعي الشرف والكرامة، وهي تتخلى عن أبنائها في لحظة احتضار جماعي؟

المفارقة الكبرى، أن هناك من بين اللاجئين من عض اليد التي امتدت له. يقف على أرصفة المدن التي آوته، يلعنها، ويهجوها، ويشكك في نواياها، بينما يتقاضى منها إعانة معيشية، ويرسل أطفاله إلى مدارسها، ويستفيد من رعايتها الصحية.

هنا يبدأ التناقض الذي لا يمكن تبريره إلا على أنه إنكار داخلي للواقع، وتمسك مشوه بوهم ماضٍ لن يعود.

بعض هؤلاء لا يرى من الحياة الجديدة سوى المال. يركض خلفه، يجمعه، يكدسه، ويقايض به روحه وعائلته. فتراه يترك أسرته في عزلة نفسية، لا لغة، لا اندماج، لا أمان. فقط سباق محموم نحو مزيد من المظاهر، والمقتنيات، والتفاخر الوهمي.

في حين تتآكل أرواحهم، ويفقدون البوصلة التي قادتهم في البدء إلى هناك.

أليس هذا إفلاسًا أخلاقيًا؟ أليس هذا قسوة من نوع آخر، لكن هذه المرة بلا دماء ولا رصاص؟

حين يتحول اللاجئ إلى غريب حتى في المهجر، إلى آلة تجميع نقود، إلى كائن فقد الحلم الأول، فإن المأساة تتخذ شكلاً أكثر وجعًا.

ما نعيشه اليوم من انقسام نفسي، بين مهاجر يكره البلد الذي احتضنه، ومقيم يلعن الغرب من نافذة هاتفه الصيني، هو شكل من أشكال العمى الحضاري.

نحن ـ وربما عن غير وعي ـ نحاكم الآخرين بمعايير لا نقبل تطبيقها على أنفسنا. نُدين الغرب لأنه لم يكن "مثاليًا بما فيه الكفاية"، بينما نتغاضى عن فسادنا، عن استبدادنا، عن فشلنا في بناء دولة تحترم الإنسان.

لقد شُيدت في عواصمنا مجمعات فارهة، وناطحات سحاب، وجسور معلقة، لكن بقيت منظومات العدالة هشة، والتعليم مريض، وحرية التعبير مكبلة.

في حين أن تلك البلدان، التي نلومها، تملك من التشريعات ما يجعل مسؤولًا كبيرًا يمثل أمام القضاء، فقط لأنه تأخر في الوفاء بوعوده. هناك لا يُحاسب الفقير فقط، بل يُحاسب الجميع، ولهذا تطورت تلك المجتمعات.

أوروبا لم تحتج لتجميل صورتها، لأنها لا تسوق لنفسها كما نفعل نحن، بل تمارس أفعالها. قد تخطئ، نعم، وقد تتراجع، وقد تعاني من تناقضات، لكن ثمة فارق جوهري:

هي تسعى لأن تصحح، ونحن نتفنن في إخفاء الخطأ.

إنَّ الحديث عن أوروبا في هذا السياق، ليس تمجيدًا لها، ولا محاولة للبحث عن مخلص خارجي، بل هو دعوة إلى مراجعة الذات.

إلى أن نعيد النظر في خطابنا، في طريقتنا في تحليل الواقع، في شكل علاقتنا بالوطن، بالمكان، بالمنفى، بالآخر.

لماذا نكذب على أنفسنا؟ لماذا لا نعترف أننا كنا عاجزين عن احتضان من سقط من حافة الحياة؟

ولماذا لا نسعى لبناء دول تحترم الإنسان، بدلاً من لعن الدول التي احترمته بالنيابة عنا؟

إنَّ أوروبا لا تحتاج إلى تجميل صورتها، بقدر ما نحتاج نحن إلى أن نخلع قناع الوهم، وأن ننظر في مرآة التاريخ، لا لنجلد أنفسنا، بل لنفهم أن العالم لا ينتظرنا.

أن نكف عن المزايدة، وأن نفهم أن القانون، والعدالة، والكرامة، هي أسس الحضارة، لا النفط، ولا الصراخ، ولا التاريخ المحنط. والإنسان هو المعيار. هو الأصل. ومن لا يبنيه، لا وطن له... ولا صورة تستحق التجميل.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.