وصل حديثاً وفدٌ سعودي رفيع المستوى إلى العاصمة السورية دمشق، وضمّ الوفد مسؤولين حكوميين وعددًا من كبار رجال الأعمال السعوديين، في زيارة تاريخية تهدف إلى توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم تصل قيمتها إلى أكثر من 6.5 مليار دولار. لكن هذا الرقم ليس مجرد دلالة اقتصادية، بل يحمل في طيّاته معاني سياسية واستراتيجية أعمق بكثير. إنها لحظة إعادة ترسيم النفوذ الإقليمي الجديد في سوريا، وتثبيت ثقل جديد، لإعادة ضبط بوصلة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط. وما معارك السويداء في الجنوب السوري إلا حفل استقبال وترجمة وفصلٌ من فصول الترحيب بقدوم تلك التوازنات.
إنَّ مجيء الرياض إلى دمشق بهذا الثقل السياسي والاقتصادي لا يمكن قراءته بعيدًا عن السياق الإقليمي المتوتر، ولا عن التنافس الخفي والعلني مع القوى المتدخّلة في الشأن السوري، وعلى رأسها تركيا وإيران.
فالسعودية، التي دفعت مئات المليارات من الدولارات للإدارة الأميركية ضمن تفاهمات استراتيجية غير معلنة، لا تنوي ترك مشروعها الكبير في الإقليم ليتحوّل إلى مائدة مفتوحة للنفوذ التركي أو الإيراني. لقد حسمت السعودية أوراقها وموقفها وموقعها في تحالفاتٍ جديدة بدأت تتبلور ضمن ما يُعرف بمجموعة "الاتفاق الإبراهيمي"، الذي تسعى من خلاله لتثبيت حضورها كقوة إسلامية إقليمية ذات قرار سيادي مستقل، في وجه مشاريع إحياء السلطنة العثمانية الجديدة، والطموحات الفارسية المتوغّلة في الجغرافيا العربية. وخطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخير حول ضرورة احتضان تركيا لبغداد، وهولير، والموصل، وحلب، وإدلب، وحماة، وحمص، وغيرها من المدن، جاء ضمن هذا السياق، كخطاب استعماري وتوسعي عثماني كامل الأركان.
بناءً على هذا، نستطيع القول إنَّ تركيا، التي حاولت مرارًا استخدام أدوات غير مشروعة لتحقيق مكاسب جيوسياسية، ليست بعيدة عن محاولات تسليح الجماعات المتشددة، واستخدامها كورقة ضغط في الجنوب السوري، تمامًا كما فعلت سابقًا في كوباني، وفي مناطق كثيرة في الشمال السوري. لكنّ هذه المرة، اصطدمت تلك المشاريع التركية بجدار صلب يتمثّل في التحالف السعودي – الإسرائيلي – المصري – الأردني، الذي بدأ يشكّل واقعًا مغايرًا على الأرض، ويؤسّس لمرحلة جديدة يكون فيها الأمن والاستقرار عبر توافقات استراتيجية، لا من خلال ابتزازات عسكرية.
السعودية، ومن خلال إعادة انخراطها المباشر في الملف السوري، وعبر البوابة الاقتصادية، تريد أن تقول وتُرسل رسالة واضحة: لم يعد مسموحًا لحكومات الأمر الواقع، كالحكومة السورية المؤقتة المدعومة من أنقرة، بعقد تحالفات وصفقات عسكرية دون العودة إلى الإرادة الإقليمية الكبرى. فالمشهد السوري لم يعد فضاءً فارغًا يتسابق عليه اللاعبون الإقليميون، بل بات ميدانًا لتقاطع توازنات دقيقة، ترسمها الرياض وتضبطها تل أبيب وتثبّتها واشنطن، إلى جانب بروز لاعب جديد واحتياطي في لعبة التوازنات، وهو اللاعب الكوردي.
هذا اللاعب الذي برز دوره كعنصر محوري في ضبط معادلة الأمن الإقليمي، والمأمول منه أن يلعب دورًا كبيرًا في إدارة التوازنات والصراعات. فلولا تضحيات البيشمركة مثلًا في الموصل، وقوات سوريا الديمقراطية، والمكونات الكوردية والعربية والآشورية التي قاتلت داعش، لما بقيت خرائط النفوذ كما هي عليه اليوم. فمع انخراط كورد سوريا في الترتيبات الجديدة، يتعزّز دورهم ليس فقط كشريك عسكري في مكافحة الإرهاب، بل كفاعل سياسي وضروري أيضًا في صياغة مستقبل سوريا والمنطقة.
إنَّ ما يجري اليوم ليس مجرد تقارب سعودي – سوري، بل هو مخطط مدروس لإعادة صياغة الشرق الأوسط بما يتوافق مع المصالح المشتركة لقوى الاعتدال، ولقطع الطريق أمام مشاريع الاستلاب العثماني والهيمنة الفارسية. وللمرّة الأولى منذ سنوات، يبدو أن دمشق بدأت تعود إلى حضن عربي أكثر واقعيةً وتخطيطًا، لا يُراهن على الخطب والشعارات، بل على الاتفاقيات والمصالح. وطرد النظام البعثي كان عنوان هذه المشاريع الضخمة.
ببساطة، لم تعد دمشق ميدانًا للصراع فحسب، بل باتت بوابة لصياغة السلام في المنطقة، بموازين قوى جديدة، وبدعم تحالف يعرف تمامًا أن طريق السلم يبدأ من كبح جماح أنقرة وطهران معًا، وتثبيت دور الكورد كحُرّاس للاستقرار الإقليمي.
أخيرًا: هل ستغامر تركيا بمستقبل عملية السلام بينها وبين حزب العمال الكوردستاني، وتحتل مناطق الإدارة الذاتية لخلط الأوراق وتعود إلى لغة العسكرتاريا مجددًا وتقف بوجه الاتفاقات الإبراهيمية وترفضها، أم أنها قد استبقت الأمور واستشعرت مبكرًا أن البوابة الكوردية هي أسّ الحلول وأساس مشاكلها ومعضلاتها الكثيرة والمعقّدة؟