د. حسن مدن
هل من جامعٍ بين التاريخ والجغرافيا اللذين يبدوان، في الظاهر، مجالين مختلفين؟ من تستهويهم دراسة التاريخ والتخصص فيه لا يكونون في العادة شغوفين بالجغرافيا التي يرونها بعيدة عن حقل اهتمامهم والعكس صحيح أيضاً، ففي حين يهتمّ علم الجغرافيا بدراسة سطح الأرض والظواهر الطبيعية وبالموقع والامتداد والتضاريس وما إليها من أمور وظواهر ذات صلة، فإن علم التاريخ يهتم بدراسة الماضي الإنساني وما شهده من أحداث ووقائع وتقصي أسبابها وكذلك ما أفضت إليه من نتائج بالاعتماد على الوثائق والمخطوطات وحتى الشهادات الشفوية.ما يبدوان حقلين أو مجالين مختلفين قد يلتقيان في أمور معينة على أيدي باحثين معنيين بتقديم ما يُعدُّ رؤية بانورامية لما مرَّ بالعالم وما سيمرُّ به في المستقبل، هاهو الفرنسي كريستان غراتالو في كتابه «هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى؟»، الذي وضع الهادي التيمومي ترجمة عربية له، يحكي لنا أن أحد أساتذته الجامعيين يلخص الجغرافيا في السؤال «أين؟»، كي يصل إلى خلاصة تشرح: «لماذا هنا وليس في مكانٍ آخر؟»، فعلى الجغرافي أن يجيب على السؤال اللاحق، غير مكتفٍ بتحديد المكان وإنما لتبيان السبب الذي حدد طبيعة هذا المكان.لم يقف غراتالو عند سؤال معلمه الجامعي في الجغرافيا: «أين؟ ولماذا هنا بالذات؟»، وإنما عقد ما يشبه المقابلة بين الجغرافيا والتاريخ، فإذا كان سؤال الجغرافيا هو «أين؟»، فإن سؤال التاريخ يجب أن يكون «متى؟» ومن «متى؟»، هنا ينشأ سؤال: لماذا في هذه الحقبة بالذات وليس في سواها، قبلها أو بعدها؟ وبناءً عليه، حاول المؤلف أن يجعل هدف كتابه المشار إليه الجمع بين الإجابة على السؤالين: سؤال الجغرافيا وسؤال التاريخ، مُوحِّداً إياهما في السؤال المركب التالي: «لماذا هنا وفي تلك اللحظة وليس في مكان آخر ولحظة أخرى؟».وإذا كانت الجغرافيا هي ما وزع البلدان على كوكب الأرض وفق حساب خارج عن إرادة البشر وعن قدراتهم في التحكّم، فإن البشر هم من صنع التاريخ بكل متناقضاته.لا يصحُّ الحديث عن المختلف والمؤتلف بين التاريخ والجغرافيا دون أن نقف عند الباحث المصري الكبير الراحل جمال حمدان، صاحب المقولة الشهيرة: «الجغرافيا تاريخ ساكن، والتاريخ جغرافيا متحركة»، وبهذه العبارة لخّص حمدان الأمر ببلاغة، هو الذي نجح في جعل أنهار الحياة تتدفق في شرايين الجغرافيا، فلم تعد مجرد علمٍ جامدٍ يهتم بالتضاريس وإنما رآها علماً وثيق الصلة بالتاريخ والسياسة، فالجغرافيا هي الأخرى تصنع الأدوار وليس التاريخ وحده وتسهم في صنع الحضارات أو بالعكس في خرابها، فلا تصحّ دراسة تاريخ المجتمعات ومعرفته دون الوقوف على أثر الموقع في تشكيل صورتها وسمات أهلها وفي تفاصيل التاريخ الذي صنعوه.