د. محمد السعيد إدريس
منذ توقَّف الحرب بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل التي فجرها العدوان الإسرائيلي على إيران يوم 13 يونيو/ حزيران الماضي وكم الخسائر الهائلة التي منيت بها إيران سواء على صعيد تدمير القاذفات الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية الأهم في فوردو وناتانز وأصفهان أو على صعيد الخسائر العسكرية الهائلة والاختراقات الاستخباراتية غير المسبوقة كان السؤال الذي شغل وما زال يشغل المراقبين في الداخل الإيراني وفي الخارج، وقبلهم جميعاً القطاعات الأوسع من الشعب الإيراني التي وقفت بقوة ضد العدوان متجاوزة كل خلافات مع النظام الإيراني هو: ما هي المراجعات التي ستقوم بها إيران في إطار استعادة القدرة مجدداً على الردع وتجاوز الأخطاء والاستعداد لما هو قادم من حرب أو حروب جديدة في ظل تحالف إسرائيلي- أمريكي عازم، ليس فقط على القضاء على القدرات النووية والعسكرية الإيرانية بل والقضاء على النظام وإخراج إيران نهائياً من معادلة الصراع الإقليمي. المراجعات العسكرية بدأت في أوج الحرب وبعد ساعات معدودة من بدء العدوان الذي تعمد اغتيال أبرز القيادات العسكرية والعقول العلمية، خاصة في المجال النووي وتدمير الجزء الأكبر من قواعد الرادارات والدفاع الجوي، حيث تم إحلال قيادات جديدة تولَّت بكفاءة إدارة الحرب وحققت نجاحات لم يتمكن الإسرائيليون من إخفائها، كما تم تعويض قواعد الدفاع الجوي التي تم تدميرها وبعد الحرب جرت اتصالات عسكرية إيرانية وقبلها اتصالات سياسية مع أهم القوى الدولية الحليفة: الصين وروسيا وكوريا الشمالية لتجديد وتطوير القدرات العسكرية خاصة في مجالات الدفاع الجوي والطيران استعداداً لما هو قادم. رغم أهمية كل هذه المراجعات إلا أنها لم تمس «العقل الاستراتيجي» الإيراني، الذي سيدير القرار السياسي في الفترات الصعبة القادمة ومن هنا بالتحديد يأتي القرار المهم جداً الذي أصدره الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يوم الثلاثاء الفائت (5/8/2025) بتعيين علي لاريجاني رئيساً لمجلس الأمن القومي الإيراني، أعلى هيئة استراتيجية في البلاد خلفاً للجنرال على أكبر أحمديان، وهو من الشخصيات العسكرية المرموقة في الحرس الثوري، حيث كان قد شغل في السابق منصب رئيس المركز الاستراتيجي في الحرس الثوري وكان أحمديان قد تولى رئاسة مجلس الأمن القومي في مايو/أيار 2023 خلفاً للأدميرال على شمخاني وزير الدفاع الأسبق الذي تولى مهام الأمين العام لمجلس الأمن القومي لمدة 10 سنوات وكان أحد مَن استُهدفوا بالاغتيال في الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي يوم 13 يونيو الفائت، لكنه نجا من الموت، رغم إصابته بإصابات بليغة. خطاب التكليف الذي أصدره الرئيس الإيراني لعلي لاريجاني، بعد التصديق عليه من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي تضمن ما يؤكد أن هذا التعيين لأهم مستشاري المرشد الأعلى للشؤون السياسية والذي تولى رئاسة البرلمان الإيراني (مجلس الشورى) لمدة 12 عاماً، وظل عضواً بمجلس الأمن القومي لمدة 25 عاماً وتولى رئاسته لمدة عامين في ظل رئاسة الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد وكان يشرف على المفاوضات النووية قبل أن تنتقل من المجلس إلى وزارة الخارجية، هدفه تحقيق مراجعة استراتيجية لما حدث قبل وأثناء العدوان من تصرفات وقرارات سياسية وعسكرية واستعداداً لما هو قادم بوضع رؤى استراتيجية لإدارة الصراع المفروض على إيران سواء على صعيد تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتهديدات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بشن جولة جديدة من الحرب إذا عاودت إيران أنشطتها النووية، أو على الصعيد الدبلوماسي وخاصة مع دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) التي تهدد إيران بإعادة فرض العقوبات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن، بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015 (آلية سناب باك) في حال عدم إحراز إيران تقدم ملموس في اتفاق نووي في أكتوبر/ تشرين أول المقبل. ففي خطاب التكليف حض الرئيس الإيراني حليفه علي لاريجاني المحسوب على الجناح المعتدل من المحافظين المتشددين، والذي يقف في الوسط بين تياري الإصلاحيين، الذين يمثلهم الآن الرئيس بزشكيان والمحافظين على «تعزيز التنسيق بين المؤسسات ذات الصلة ورصد أولويات قضايا الأمن القومي ومخاطره، لاسيما التهديدات المستجدة والتقنية» وطلب منه «إعادة صياغة المفاهيم الاستراتيجية وتبني منهج ذكي قائم على المشاركة الشعبية بما يتناسب مع منظومة الأمن القومي لتحقيق السياسات العامة، وتنفيذ توجيهات المرشد الأعلى، وصولاً إلى أمن مستدام على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية». الواضح أن الرئيس الإيراني توصل إلى قناعة، بعد مراجعات مهمة واسعة توافقت مع رؤى المرشد الأعلى من أبرزها الحد من «عسكرة العقل الاستراتيجي» في مجلس الأمن القومي والعودة إلى «تسييسه» وإمداده بالقدرات العلمية والتكنولوجية المطلوبة وفي ذات الوقت عدم تجاهل الجانب العسكري حيث تم إنشاء لجنة فرعية عليا للأمن القومى تختص بالقضايا الدفاعية، التي ستتولى مراجعة الخطط الدفاعية وتعزيز قدرات القوات المسلحة وسيترأسها رئيس الدولة وعضوية رئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية وكبار قادة أفرع القوات المسلحة ووزارات الدفاع والخارجية والاستخبارات وسيكون علي لاريجاني هو مهندس التوازن بين مجلس الأمن القومي وهذه اللجنة الدفاعية الجديدة.