: آخر تحديث

هيمنة الفتوة

0
0
0

طلال صالح بنان

أعلن الرئيس الأمريكي يوم الأربعاء الماضي فرض تعريفات جمركية على واردات الولايات المتحدة من 185 دولة، تتراوح من 10%؜ إلى 49%؛ بهدف خفض الميزان التجاري الأمريكي مع تلك الدول. سرعان ما ظهر التأثير السلبي لفرض تلك التعريفات: الخفض الشديد في أسواق الأسهم العالمية، بما فيها الأسواق الأمريكية، التي فقدت 2 ترليون دولار، في اليوم الأول من الأخذ بتلك السياسة الحمائية الجديدة. ما يهمنا هنا: من الناحية السياسية والاستراتيجية والأمنية، لهذا القرار غير المسبوق في السياسة الخارجية الأمريكية، وتأثيره السلبي على مكانة ودور الولايات المتحدة المهيمن (المتفرد)، بوصفها القوة الأعظم (الوحيدة)، في النظام الدولي، اليوم.

الولايات المتحدة، من الناحية الإستراتجية، هي الدولة الأعظم (الوحيدة)، في نظام دولي آحادي القطبية، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وإلى اليوم، غير ما يُشاع عن نظام القطبية الثنائية، طوال عهد الحرب الباردة (1945-1991). في حقيقة الأمر: نظام الأمم المتحدة كان وما زال نظاماً دولياً أمريكياً، بامتياز.

عهد الحرب الباردة كان الصراع فيه أيدلوجياً، ولم يكن في حقيقة الأمر إستراتيجياً، بالمطلق. طوال ما يقرب من ثمانية عقود، ظلت الولايات المتحدة متفوقة كقوة عظمى وحيدة ماسكة بزمام الأمور في نظام الأمم المتحدة، استراتيجياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً وثقافياً وحضارياً، ولم يكن الاتحاد السوفيتي، في أي وقتٍ من الأوقات منافساً حقيقياً لمكانة الولايات المتحدة الرفيعة كونها القوة المهيمنة الحقيقية الوحيدة، أممياً.

مشكلة الولايات المتحدة التاريخية: ميلها للعزلة، أكثر من انجذابها ناحية الانخراط في السياسة الدولية. حتى في أوج بنائها لنظام الأمم المتحدة، كانت وضعية العزلة تغلب على تبصرها لمصالحها الإستراتيجية القومية. إلا أن واشنطن تعلمت الدرس من تجربتها في نظام عصبة الأمم (1919- 1939)، الذي تخلت عنه ولم تنظم إليه، لتعود لعزلتها الأممية، حتى نشبت الحرب العالمية الثانية. عندها وعت واشنطن، من الناحية الاستراتيجية أن أمنها القومي بين ضفتي المحيطَين الأطلسي والهادي، لا يمكن تصوره دون الانخراط بقوة وتصميم في السياسة الدولية، بإنشاء عازل جغرافي في العالم القديم، يعزز من متطلبات أمنها القومي، بوجود حلفاء أقوياء لها في أوربا الغربية.. وغرب الباسفيك، مثل اليابان وتايوان وأستراليا.. وحتى أدغال الهند الصينية، مروراً بمنطقة الشرق الأوسط.

بعبارة أخرى: لأول مرة في تاريخها تعي الولايات المتحدة أن لمكانة الهيمنة الكونية تكلفة لا بد أن تدفعها حتى تتمتع بامتيازاتها، لتضمن بقاءها على سُدة هذ المكانة الدولية الكونية الرفيعة. عقب الحرب الكونية الثانية، أنفقت واشنطن بسخاء على مشروع مارشال لإعادة إعمار حلفائها في الشرق والغرب. وأن ذلك لن يتأتى لها إلا بالخروج من قوقعة عزلتها، بتوفر عاملين رئيسيين؛ إلأول: بناء صروح اقتصادية عملاقة في حمى منطقتها العازلة في أوروبا الغربية واليابان. الثاني: الاستعداد لدفع تكلفة الدفاع عن حياض مجالها الحيوي في العالم القديم، بنشر مظلة نووية محكمة تتحمل وحدها تكلفة بنائها وصيانتها وضمان فاعلية ردعها الاستراتيجي، في كل الأوقات.

نأتي الآن لمبدأ ترمب الذي يرفع شعاري (أمريكا أولاً) و(لتستعيد أمريكا عظمتها من جديد). شعاران لحقبة جديدة من العُزلة، تبتعد بهما عن وجهي عملة الهيمنة الكونية، بتأكيد إرادة دفع تكلفتها، لتحصل على امتيازاتها. وضعٌ يشبه بداية النهاية لحقبة الهيمنة الكونية لواشنطن. وإذا ما تواكب ذلك مع التخلي عن قيم الممارسة الديمقراطية، مع تردي الأحوال الاقتصادية في الداخل، الناتجة عن السياسة الحمائية الجديدة، من تضخم وزيادة معدلات البطالة وانخفاض في معدلات النمو، وربما كساد. كما أن واشنطن تخطئ إن هي تصورت أن سياستها الحمائية الجديدة لن تُقابل بإجراءات مضادة من الآخرين. الصين، على سبيل المثال: أعلنت فوراً عن تعرفة جمركية جديدة، تصل لـ34%؜ إضافية على الواردات الأمريكية.

مشكلة العزلة «الترامبية» الثانية والخطيرة، أن الرئيس ترمب يريد أن يفرض هيمنته على العالم بالرعب (السلبي)، عن بعد، دون أن يجازف بحياة جندي أمريكي واحد! هذه ليست من «شيم» الهيمنة الكونية.. وليست من «طبائع» الزعامة الكونية. بريطانيا العظمى في عهد هيمنتها الكونية (1815- 1914)، كانت مستعدة للحفاظ على مكانتها الكونية بإرسال جنودها وأساطيلها إلى أقاصي الأرض، كما حدث في حرب البوير بجنوب أفريقيا (1899-1902). وقتها. بينما الرئيس ترمب يريد أن يقلص تواجد قواته وقواعد بلاده العسكرية وبرنامج المساعدات الدولية، بدعوى حفظ النفقات، كما يجادل.

باختصار: الرئيس ترمب يريد فرض هيمنة كونية، تقوم على مبدأ العزلة الجغرافية، دون أن يدفع دولاراً واحداً، ولا يضحي بجندي واحد، وينتظر أن يجني امتيازات الهيمنة الكونية.

الهيمنة الكونية فقط تطير بجناحين: دفع التكلفة، مقابل التمتع بالامتيازات. أما وضع الهيمنة الكونية في عهد الرئيس ترمب، يستند على قيم «الفتوة»، لا على عقلانية الدولة (العظمى)، التي تسعى لمكانة الهيمنة القومية والبقاء على سدة سنامها. المعضلة الاستراتيجية الأخرى هنا: أن الرئيس ترمب، بينما يختار استراتيجية العزلة، يتطلع لأن تتوسع الولايات المتحدة، حتى على حساب مصالح وأمن جيرانها وحلفائها! الأنكى والأمر: الاقتراب من أعدائه الكونيين التقليديين (روسيا)، بالمساومة على مصالح وأمن حلفائه وأصدقاء بلاده التاريخيين (أوروبا والشرقين الأوسط والأقصى وغرب الباسفيك).

كل ذلك، في النهاية، يصب ضد مصلحة الولايات المتحدة، بإضعافها اقتصادياً وسياسياً، داخلياً.. ويضر، استراتيجياً، بأمنها القومي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد