مبارك الهزاع
في قلب الصحراء، حيث تُحسب القطرة كأنها ذهب، ترتفع مآذن الكويت، تدعو إلى الصلاة، وتُذكّر بربٍّ أنعم بالماء، فجَعله سِرّ الحياة وها أنا أقف اليوم، لا كمتفرج، بل كمواطن كويتي يشعر بالوجع حين يرى هدراً غير مبرر للماء في مساجدنا، بينما تُحذّر التقارير من نضوب الخزانات الجوفية، وتعتمد الدولة على التحلية بأسعار باهظة، وترتفع درجات الحرارة، وتتوسّع الصحراء. فكيف نسمح لأنفسنا، في بيوت الطهارة، أن نُضيع الطهارة؟!
في كثير من مساجد الكويت، تُفتح الصنابير، ولا تُغلق بسرعة. يُستخدم الماء في الوضوء بكميات تفوق الحاجة. أنابيب قديمة، صنابير لا تُغلق تلقائياً، عدم تواجد أجهزة استشعار، أو أنظمة تنقية وتخزين لمياه الصرف الرمادي (Grey Water) - كلها تُسهم في تضييع نعمة لا يُستهان بها، لا سيما في بلد يعاني من شُح الموارد المائية.
السؤال ليس: هل نحتاج إلى الماء في المسجد؟ بل: كيف نُحافظ عليه بعد استخدامه؟ لماذا نُهدر ما يمكن أن يُصبح شجرة؟ لماذا نُضيع ما يمكن أن يُطعم جائعاً، أو يُروي طائراً مهاجراً في رحلة شاقة عبر الصحراء؟
تخيل مسجداً في حي جليب الشيوخ، أو حولي، أو الفروانية، تُجمع مياه الوضوء عبر شبكة بسيطة، تُرشّح، تُخزّن، ثم تُستخدم في ري حديقة حول المسجد، لا بالزهور الباهتة، بل بأشجار مثمرة: نخيل التمر، شجر الزيتون، الرمان، الجوافة، والحمضيات. أشجار تُثمر، تُظلل، تُنقي الهواء، وتُعطي.
كل قطرة ماء تُستخدم في الوضوء، يمكن أن تُصبح قطرة حياة في تربة خصبة. لا نحتاج إلى مشاريع ضخمة، بل إلى وعي، وإرادة، وتقنيات متاحة اليوم: أنظمة تنقية صغيرة، خزانات تحت الأرض، أنظمة ري بالتنقيط تعمل بالطاقة الشمسية، صنابير استشعارية تُغلق تلقائياً.
المسجد في الإسلام لم يكن يوماً مكاناً للصلاة فقط. كان مركزاً للتعليم، للعدالة، للإغاثة، وللبيئة. النبي ﷺ أمر بسقي الطيور، ونهى عن إتلاف النخل، وجعل العطشان من أعظم من تُكافأ في حقه.
فماذا لو أصبح كل مسجد في الكويت مصدراً غذائياً محلياً؟ ماذا لو وزّع تمر النخيل على الأسر المتعففة في الحي؟ ماذا لو استُخدمت الفاكهة في موائد الإفطار الجماعية في رمضان، أو في توزيعات العيد؟
وحتى الطيور المهاجرة، التي تعبر الكويت في فصلي الربيع والخريف، تبحث عن الماء والظل. فماذا لو وجدت في فناء المسجد شجرة مثمرة، وبِركة صغيرة من الماء المعاد استخدامه؟ إنها رحمة، لا تُحسب بالكيلوغرامات، بل بالأجر.
في زمن الأوبئة، أو الكوارث، أو الأزمات اللوجستية، قد تنقطع الإمدادات. هنا، تبرز أهمية «الأمن الغذائي والمائي المحلي». ماذا لو كانت المساجد، بفضل هذه الزراعة الذكية، قادرة على تأمين كميات من الطعام والماء؟ ماذا لو حوّلنا كل مسجد إلى وحدة إغاثة صغيرة، تُغذي، تروي، وتُعزز الصمود المجتمعي؟
أدعو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بلدية الكويت، هيئة المياه، والجمعيات البيئية، إلى إطلاق مبادرة وطنية تُركّز على:
- تركيب صنابير استشعارية في جميع المساجد.
- تأسيس أنظمة جمع وتنقية مياه الوضوء.
- زراعة الحدائق المحيطة بالمساجد بالنباتات المثمرة والمقاومة للجفاف.
- تدريب الأئمة والمؤذنين والشباب على مفاهيم الاقتصاد المائي.
- تخصيص مكافآت ومسابقات رمزية للمساجد التي تُحقق أفضل نتائج في التوفير والإنتاج.
الكويت، بلد الكرم، لا يمكن أن تُهدر نعمة الماء في بيوت الله.
فالمسجد ليس مكاناً للهدر، بل هو مكان للحساب، للرحمة، وللمسؤولية.
فلنُعد للماء قيمته، وللمسجد دوره الشامل.
فلنحوّل كل قطرة من ماء الوضوء إلى سقيا للجائع، وظلٍّ للطير، ودرعٍ للمجتمع في يوم الشدة.
ولا تسرفوا... «إن الله لا يحب المسرفين».