عبداللطيف الضويحي
في مرحلة سورية عصيبة تتوثب فيها الثارات والصراعات، وتحتدم فيها النعرات والأيديولوجيات والخلفيات الثقافية العرقية والدينية، ويتكالب فيها الاستعمار الغربي الصليبي الصهيوني على سورية والبلاد العربية والإسلامية من خلال نفخ عضلات جيش الجبناء المحتلين في تل أبيب للسيطرة على سوريا ودول المنطقة، مع تغييب ممنهج ومتعمد للقانون الدولي والمواثيق الدولية، يبقى الخيار الأمثل والوحيد ربما أمام سورية الجديدة والسوريين الجدد هو الاقتصاد، للحفاظ على سورية وتمكين سورية المستقبل.
إن الاقتصاد هو العصا السحرية الذي يمكن أن يُجمع عليه أهل الشام وأهل السويداء وأهل الساحل وأهل الشرق والشمال والغرب السوري. والاقتصاد هو نقطة الالتقاء التي لا يختلف عليها اثنان في سورية أو خارج سورية. إنه الاقتصاد الذي أطلق ألمانيا الحديثة من تحت الركام، وهو الاقتصاد ذاته الذي أخرج اليابان الحديثة من تحت الأنقاض.
رغم ما يقوله البعض بأن السياسة والاقتصاد وجهان لعملةٍ واحدة، إلا أن السياسة في الأساس تقوم على الاختلاف والصراع والتشتيت، بينما يقوم الاقتصاد بشكل عام على التنافس المدفوع بالأمن والاستقرار والعيش الكريم والمصلحة المتبادلة المشتركة بين كافة الأطراف.
إن أهم وأبرز ما تحقق لسورية والسوريين خلال السنوات العشر الماضية من عمر الثورة هو التراكم الكمي والنوعي الهائل في رأس المال البشري، والذي تحصل عليه السوريون نتيجة اضطرار غالبية الشعب السوري للجوء والهجرة لدول مختلفة، وهو ما مكّن السوريين من خوض تجارب متنوعة بل وفريدة في بعض الأحيان.
هؤلاء السوريون المهرة والمحترفون والمتخصصون على الأرجح لن يتركوا الفرص بين أيديهم في بلاد اللجوء والمهجر، ويعودوا لسورية قبل أن يتحقق الأمن والاستقرار في كافة ربوع سورية، ناهيك عن تحقيق الانتعاش والازدهار الاقتصادي في سورية، وهذا ليس مستحيلاً؛ لأن الشعب السوري متجذر في الحضارة وشعب متأصلة فيه روح العمل بين التجارة والصناعة والزراعة.
الاقتصاد هو المفتاح السري لتوحيد السوريين، فالأكثرية من السوريين في الداخل السوري، الذين لم يتمكنوا من اللجوء أو الهجرة، يعانون من الفقر، فحسب تقرير البنك الدولي 2024 أن 90% من السكان هم تحت خط الفقر، وأن 27%؛ أي حوالي 5.7 مليون، هم في فقر مدقع. أما البطالة فتتجاوز، حسب بعض المصادر، 37% سنة 2024، وتصل في بعض المناطق الخارجة عن النظام إلى 88.82%.
وإذا ما أردنا تحييد البعد السياسي والبعد الديني وتبرئة ساحتيهما، فيمكن القول بأن الاقتصاد يوحّد والإعلام يفرّق، لأن الصورة المتشائمة لسورية يقف وراءها الإعلام، وهو المعروف بأنه يعمل على الشاذ الغريب النادر في حدود 1%، أما الاقتصاد الذي يعمل في نطاق 99% فهو نقيض عمل الإعلام لأنه القاعدة وليس هو الاستثناء كما هو الإعلام والاقتصاد يعمل مع الأكثرية الساحقة وليس مع الظواهر النادرة والشاذة والغريبة.
إن سورية بما حباها الله من موارد طبيعية وما تمتلكه من قدرات بشرية هائلة قبل وبعد الأزمة، وبما لديها من مخزون حضاري وتجربة ضاربة في التاريخ، لا تحتاج إلا إدارة عبقرية تضع رؤية اقتصادية 2034، أو رؤية اقتصادية 2050، وتضع مستهدفات واقعية تأخذ بالاعتبار توظيف نقاط قوة سورية والسوريين، وتقوية نقاط ضعف سورية والسوريين، وتأجيل كل ما يستعصي من قضايا شائكة من خلال ترك الباب مفتوحاً لحوار وطني مستمر لاستعادة الثقة بين كافة الأطياف السورية، وتمكين الآليات الاقتصادية تعمل في بيئة صديقة للتنافس الصحي والنجاح والابتكار والإبداع.
إن الغالبية الساحقة من السوريين موحدون ومتفقون على سورية الموحدة ذات السيادة، لأن الغالبية لا علاقة لهم بالصراعات التي شهدتها سوريا، ولأن الغالبية تحت خط الفقر، ولأن الغالبية يريدون فقط العيش الكريم، من هنا يمكن البناء على هذه القاعدة العريضة الصلبة للسوريين والشروع بتبني وإطلاق رؤية سورية مع مستهدفات واقعية تأخذ بالاعتبار توظيف نقاط القوة لسورية والسوريين وتقوية نقاط الضعف لسورية والسوريين، وتأجيل الموضوعات الخلافية، لأن ما يصعب حله حالياً بالحوار والمفاوضات كفيل به الاقتصاد، فالاقتصاد سوق وليس مجتمعاً.
أخيراً، لا بد لسورية الجديدة إذا شاءت وأطلقت رؤية سورية أن تدرس بتمعن وروية التجربة والنموذج الياباني، والتجربة والنموذج الألماني، والتجربة والنموذج الجنوب أفريقي، وأخيراً التجربة والنموذج الراوندي.