وحده النظام الصيني من بين الأنظمة الشيوعية التي بقيت على حالها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وما زال الحزب الشيوعي يقود البلاد، من خلال حزب يضم حوالي 90 مليون عضو، أي ما نسبته 6.4% من سكان البلاد، في ظل غياب لأي شكل من أشكال التعددية السياسية، لكن مع مفارقة تتمثّل في تبني اقتصاد السوق الرأسمالي، الذي يعد نظرياً العدو الأول لأي أيديولوجيا شيوعية، لكن ربما هذه المزاوجة هي ما منحت الصين فرادتها العالمية؛ إذ تمكّنت من خلال بقاء الحزب قائداً للدولة أن تتجنب مصير العديد من الدول الاشتراكية في الشرق الأوروبي، ومن خلال الاقتصاد الحر، من تحويل التعداد السكاني الهائل إلى قيمة صناعية/ اقتصادية مضافة، بدلاً من أن يكون عبئاً، واستطاعت أن تتحوّل شريكاً تجارياً لكل اقتصادات العالم.
لكن فرادة النموذج الصيني، كأي ميزة، هي منتج تاريخي، اقتصادي/ اجتماعي، يمكن أن تستنفد مع الوقت نقاط قوتها، وأن تتحوّل نقاط القوة إلى نقاط ضعف، لكن مع نموذج مثل الصين، فإن تبعات مثل هكذا تحوّل لن تكون مجرّد مشكلة في فضاء النظام الدولي؛ بل ربما كارثة، يصعب استيعابها في المديين القريب والمتوسط، وهو ما تدركه مجمل الدول الفاعلة في سوق العمل الدولي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فالارتباط الصيني بسوق العمل الدولي هو ارتباط بنيوي؛ إذ لا يمكن تصوّر ديناميات هذا السوق من دون الإسهام الصيني.
مخاوف واشنطن وشركائها من حدوث تداعيات دولية للأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها الصين، هي مخاوف متعلقة بخيارات القيادة الصينية في التعامل مع أزماتها الحالية، فقد بلغت الديون الصينية حوالي 300% من حجم الناتج القومي الإجمالي (17 تريليون دولار)، مع تراجع تاريخي للنمو الاقتصادي إلى 3% في العام الماضي، وهو من أسوأ معدلات النمو الصينية في العقود الخمسة الماضية، وارتفاع مستوى البطالة إلى 22% بين الفئات الشابة ( بين 16 و25 عاماً)، وارتفاع معدلات الهجرة متضمنة هجرة لرؤوس الأموال المحلية.
في ظل هذه التحديات، التي يجوز القول عنها إنها تحديات لا تمسّ الصين وحدها؛ بل ستكون لها ارتدادات وتداعيات عديدة، أتت زيارة هنري كيسنجر مؤخراً لبكين، ولقائه كبار المسؤولين، بمن فيهم الرئيس شي جين بينغ، وقد تعاملت بكين بحفاوة إعلامية بالغة مع الزيارة، في الوقت الذي تعاملت بنوع من البرود مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي الحالي، أنتوني بلينكن، وهو ما يوضح الرسالة الصينية، في حاجتها إلى وجود نوع من التفهم الأمريكي والدولي لأوضاع الصين، وهو ما يمثله تاريخ كيسنجر مع بكين، فهو عرّاب التقارب الدبلوماسي مع واشنطن في سبعينات القرن الماضي، وربما الأكثر تفهّماً للطريقة التي تفضّل بكين أن يتم التعامل بها مع مصالحها، بدلاً من سياسات التصعيد المستمرة منذ أكثر من عقد من قبل الإدارات الأمريكية الثلاث (أوباما، ترامب، بايدن).
لم يكن كيسنجر الذي بلغ مئة عام، ليتحمّل مخاطرة السفر الطويل إلى الصين، ومرافقة فريق طبي متكامل له، لولا وجود ضرورة مشتركة تمسّ الأمن القومي الأمريكي والصيني معاً، فالطرفان يعلمان تماماً أن مواجهة الأزمات الكبرى في الدول ذات الطابع الشمولي، لا يمكن حلّها، أو الالتفاف عليها، أو تأجيل حدوثها، إلا من خلال الهروب إلى الأمام، باختصار عبر خوض مغامرة عسكرية خارجية، تبدو كل مبرراتها جاهزة، تتمثّل بشنّ حرب ضد تايوان، وهو ما يمكن أن يمنح القيادة الصينية الوقت المطلوب لمعالجة الأزمات الداخلية، وأولها أزمة الإصلاح السياسي، الموجودة على الأجندة الاجتماعية منذ أحداث ساحة تيان آن مين من عام 1989.
في ظل الأعباء المتزايدة للحرب الروسية الأوكرانية على واشنطن والغرب، وفشل الهجوم المضاد لكييف، الذي حشد له الغرب إمكانات هائلة، فإن اشتعال منطقة بحر الصين الجنوبي بحرب جديدة، من شأنه أن يدخل واشنطن إليها، أقله بالصيغة التي تتعامل بها اليوم مع كييف، من خلال الدعم السياسي والمالي والعسكري، لكن البيئة السياسية العامة في بحر الصين الجنوبي، ومكانة الصين العالمية، ستكون أكثر خطورة على مجمل النظام الدولي، خصوصاً في الجانب الاقتصادي، الذي سيواجه مخاطر غير مسبوقة منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي.