: آخر تحديث

في قبضة الذئاب

5
5
5

لا شك أنَّ أهالي الساحل السوري عاشوا ظروفاً عصيبة خلال الحملة العسكرية الأخيرة للأمن العام على فلول النظام البعثي البائد في مناطقهم، بما أنه في سياق حملة المداهمة على أوكار ومواقع الفلول وقعت جرائم كبيرة وجرت انتهاكات فظيعة بحق المدنيين العزَّل من الأطفال والنساء والرجال. فعدا عن مقاطع الفيديو التي وثَّقت تلك الاعتداءات بالصوت والصورة، ظهرت للإعلام شهادات عن التجاوزات البعيدة عن الإنسانية أدلى بها عناصر من الأمن العام التابعين للسلطة الجديدة في سورية، وقد تحدثوا بالتحديد عن الفظائع التي ارتكبها فصيلا العمشات(1) والحمزات(2)؛ وفي هذا الجانب هناك من يرى أنَّ الحديث فقط عن انتهاكات العمشات والحمزات يأتي في إطار تبرئة باقي الجهات المشاركة في الحملة، وكذلك الأمر لإبعاد الشبهة عن الجهاديين الأجانب من الإيغور والشيشان والأوزبك، ولكن ليس من باب الانحياز أو التحامل على طرف محدَّد، فثمَّة فئات من المسلحين السوريين حالهم حال العاملين في المسالخ وأسواق السمك، حيث أنَّ روائحهم الكريهة تسبقهم أينما حطوا رحالهم. والسؤال المطروح هنا: إذا كان في ثلاثة أيام فقط من عمر تواجد فصائل العمشات والحمزات في تلك المنطقة جرت كل تلك الانتهاكات والجرائم عدا عن التعفيش بالغصب والإكراه للممتلكات المنقولة، فكيف إذن هو حال مَن يعيشون في ظل هذه الفئات العدوانية منذ ست سنوات؟!

إذ عقب سقوط النظام البعثي في دمشق بأسابيع معدودة، وتراخي القبضة الأمنية في منطقة عفرين بعد سيطرة الهيئة على مقاليد الحكم في البلد، استطاع البعض من سكان المنطقة المقيمين في حلب وتركيا العودة إلى عفرين لزيارة الأهالي والاطمئنان على أحوال من تبقى منهم في المنطقة ممن لزموا بيوتهم ولم يغادروها رغم الأهوال التي تجرعوها على يد (دعاة الحرية) طوال السنوات الماضية! وبالرغم من أنَّ الظروف الاقتصادية التعيسة كانت عامة وشملت كل مناطق سوريا، بل الظروف الاقتصادية في الشمال السوري كانت نوعاً ما أفضل من مناطق النظام البعثي البائد، إلاَّ أنَّ زوَّار المنطقة لاحظوا أنَّ من بقيوا في عفرين طوال السنوات التي قضوها تحت حكم (دعاة الحرية) ولم يموتوا قهراً كبعض ذويهم ومعارفهم! هم أكثر شيباً وتغضناً من أقرانهم المقيمين خارج المنطقة، وملامح الكِبر ظاهرة عليهم، ووجوههم عابسة وكأن أصحابها كانوا من قاطني المقابر أو نزلاء سجن صيدنايا ولا يعيشون في ظل (أحرار سورية)!

إقرأ أيضاً: هل يأخذ عبدي بكلام البارزاني؟

لذا راح كل منهم يُفسر الوضع على طريقته وتصوره، منهم من قال: إن بُعدهم عن أقاربهم ومعارفهم وأحبَّائهم هو السبب، ومنهم من قال: إنَّ الظروف المعيشية الصعبة وقلة التغذية تركت بصمتها الواضحة على ملامحهم، ومنهم من قال: إنَّ الحرب تترك أثرها في أي مكانٍ تعبر منه مرور الكرام فكيف لهؤلاء وهم يعيشون أجواء الحرب أكثر من 13 سنة، ولأن أحد المحسوبين على الفصائل كان حاضراً أثناء التواصل عن بُعد، فخجلوا من النطق بالحقيقة في حضرته، فيقولون إن أصل البلاء جاء وبدأ منذ عام 2018 أي منذ أن وطأ (دعاة الحرية) تلك المنطقة، ما دفعني للإدلاء برأيي فقلتُ للحاضرين: هل سمعتم بالقصة التي أوردها العالم ابن سينا كنوع من التجربة العلمية عن الخروف والذئب؟ باعتبار أن هناك تشابهاً كبيراً بين الحالة النفسية لأهالي المنطقة وضمور الخروف في تجربة ابن سينا، قالوا: لم نسمع بها، فقلتُ: سأقرأها عليكم كما وردت في المدونات، فجاء في القصة أن ابن سينا وضع خروفين في قفصين منفصلين، الخروفان متساويان بالوزن والعمر ومن سلالة واحدة، ويتغذيان من نفس العلف، ولكن وضع ابن سينا قفص الخروف الأوَّل بجانب قفص فيه ذئب يشاهده يومياً، ويسمع صوته، ويشم رائحته؛ بينما الخروف الثاني وضعه في مكانٍ بعيد جداً عن قفص الذئب، لكي لا يشاهده ولا يسمع صوته ولا يشم رائحته؛ وبعد عدة أشهر مات الخروف الأوَّل الذي يشاهد الذئب يومياً بسبب الضغط والقلق والتوتر والخوف، هذا بالرغم من أنَّ الذئب كان في قفصه محبوساً، أي لم يفعل له شيئاً؛ بينما الخروف الثاني الذي لم يشاهد الذئب عاش بسلام وبصحة جيدة وظل يتغذى جيداً، ومن هذه التجربة استنتج ابن سينا أنَّ الخوف والقلق والتوتر المستمر كفيل بتدمير الصحة والجسم وقد تؤدي تبعات المكوث قِبال الذئبِ إلى الوفاة.

إقرأ أيضاً: كمشة مفارقاتٍ سورية

فأضفت أنَّ تجربة العالم ابن سينا يا اخوان تماثل تماماً الواقع الحقيقي للنموذين الذين أشرتم إليهما، أي الباقين في عفرين وأقرانهم المقيمين خارج المنطقة ممن كانوا من نفس الأعمار، حيث أنَّ الحياة في ظل (دعاة الحرية)! كانت أشبه بالعيش في قبضة الذئاب التي كانت تتربص بهم ليل نهار، وحال عموم الناس في المنطقة خلال الفترة التي أعقبت الغزو كان كحال الخروف الأوَّل الذي وُضِع بجانب قفص الذئب والذي مات بسبب الخوف والقلق والتوتر، بما أنَّ أكبر نسبة للوفيات بسبب القهر والحرقة والحسرة كانت في تلك الفترة، وذلك نتيجة حرمان أهالي المنطقة من حق الدفاع عن النفس بأي وسيلة كانت في ظل الفوضى المدروسة من قبل الجهة التي أرسلتهم، وانتشار ثقافة السلب والنهب والسطو المسلح التي أنعشتها فُرق الهمج من أمثال العمشات والحمزات من وقت سيطرتهم على تلك المنطقة المسالمة التي لم تشهد مثيلاً لذلك التسلط المقيت منذ جلاء الفرنسيين عن سوريا.


1. العمشات: فرقة السلطان سليمان شاه،  بقيادة الأخوين محمد حسين الجاسم الملقب بــ"أبو عمشة" وأخيه "وليد".
2. الحمزات: فرقة الحمزة، بقيادة سيف بولاد الملقب بـ"أبو بكر". وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد فرضت في 2023 العقوبات على الجماعتين العسكريتين وقادة ومسؤولين فيها لتورطهما في "انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في منطقة عفرين"، الواقعة في أقصى الريف الشمالي الغربي لسوريا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف