في ظل التغيرات الإقليمية والدولية وتعدد النزاعات وتصاعد التوترات التي يشهدها العالم، واحتدام الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ونظراً لتأثر دول الخليج العربية بهذه الأحداث بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية، كل ذلك جعل دبلوماسيتها ذات طابع خاص، حيث سعت الدبلوماسية الخليجية إلى خلق التوازن بين القوى الكبرى من أجل الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، الصين، روسيا، وأوروبا، لضمان الاستقرار الاقتصادي والأمني. كما أصبحت دول الخليج العربية لاعباً بارزاً في حل النزاعات، مثل دور قطر في أفغانستان، أو وساطة السعودية في حل قضايا الخلاف في السودان واليمن، ودولة الإمارات العربية في حل النزاعات الإفريقية والإقليمية والدولية. ومؤخراً استضافت الرياض محادثات بين مسؤولين أميركيين وروس بهدف إنهاء الحرب في أوكرانيا، وكذلك الأدوار الأخرى التي قامت بها كل من دولة الكويت ومملكة البحرين في تقريب وجهات النظر في كثير من القضايا العربية والإقليمية وحتى الدولية، هذه المساعي تُظهر الدور الكبير للدبلوماسية الخليجية المتنامي كوسيط دولي مؤثر.
التكامل الخليجي في الدبلوماسية الخارجية أصبح عنصراً أساسياً في تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي، خاصة مع ازدياد دور دول الخليج في الوساطات السياسية والتعاون الاقتصادي. كما أصبح الخليج العربي منصة للمصالحة وحل النزاعات، من خلال ما أظهرت الدبلوماسية الخليجية من دور جلي في دعم القضية الفلسطينية، والتعامل مع الملف الإيراني، وإزاحة نظام الدكتاتور بشار الأسد، وتحجيم تداعيات الربيع العربي الذي أحدث دماراً في مختلف أرجاء الوطن العربي، وقبلها تحرير دولة الكويت من الغزو العراقي، وذلك الموقف الخليجي من حرب 6 تشرين الأول (أكتوبر) بوقف إمداد الغرب بالنفط، وفي الوقت نفسه خلق توازن في العلاقات مع القوى الكبرى مثل الصين وأميركا وروسيا. كما أن الاستثمارات الخليجية العالمية أصبحت جزءاً من السياسة الخارجية، حيث تستخدم لتعزيز النفوذ في أوروبا، آسيا، وأفريقيا. وربما تجلى التنسيق الخليجي في القضايا الأمنية في الاتفاقيات الدفاعية مع الدول الكبرى، والتعاون الاستخباراتي لمكافحة الإرهاب.
إقرأ أيضاً: مستقبل التواجد الروسي في سوريا
لكن، هل هذا التكامل مثالي؟ أم أنه يواجه تحديات تعيق تحقيق أهدافه؟
بلا شك، هناك تحديات تواجه التكامل في الدبلوماسية الخليجية، منها تباين الأولويات السياسية بين الدول الخليجية مثل الاختلاف في العلاقات مع إيران وتركيا، كذلك التنافس الاقتصادي والدبلوماسي، خاصة في استقطاب الاستثمارات والشراكات الدولية، بالإضافة إلى ضغوط القوى الكبرى ومحاولة استمالة بعض الدول الخليجية لصالحها في محاولة لإحداث صدع في هذه المنظومة الدبلوماسية المتكاملة والتي تأثرت بعض مواقفها بالأزمات الإقليمية، مثل الحرب في اليمن والسودان وسوريا. وعلى الرغم من كل التحديات، فإن دول الخليج العربية أثبتت قدرتها على العمل الجماعي في كثير من الملفات وحققت نجاحاً كبيراً في ذلك.
تستمد الدبلوماسية الخليجية قوتها من الخبرات التي تمتلكها في هذا المجال، ومن التجارب التي مرت بها وشكلت لديها صورة استشرافية مستقبلية لكثير من القضايا العربية والإقليمية والدولية. كل ذلك صقلته الحكمة والحنكة السياسية والبصيرة الثاقبة التي يتمتع بها قادة وشعوب دول الخليج العربية، والخبرات المتراكمة التي اكتسبتها عبر العقود الماضية، والقدرة على التنبؤ بالتغيرات الدولية والتكيف معها بذكاء والتوازن بين الانفتاح السياسي والتمسك بالمبادئ الأساسية. بالإضافة إلى شعوب واعية بأهمية دورها في العالم، مما يمنح الدبلوماسية الخليجية شرعية وتأثيراً أكبر. ثم تأتي قوة الثروات الاقتصادية والنفطية؛ فدول الخليج تمتلك أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، مما يمنحها نفوذاً اقتصادياً قوياً، كذلك استخدام الاستثمارات والصناديق السيادية كورقة ضغط أو تقارب مع الدول الكبرى، والتأثير على أسعار الطاقة العالمية من خلال "أوبك+"، ما يجعلها شريكاً لا غنى عنه.
إقرأ أيضاً: هل ما زالت أميركا حليفًا مناسبًا للعرب؟!
وللموقع الجغرافي الاستراتيجي في قلب التجارة العالمية دور هام في تشكيل حلقة وصل بين الشرق والغرب، والتحكم في الممرات المائية المهمة مثل مضيق هرمز، الذي تمر عبره 20 بالمئة من إمدادات النفط العالمية. وفي ظل التحالفات الاستراتيجية، تمتلك دول الخليج العربية شراكات قوية مع الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والاتحاد الأوروبي، مما يتيح لها حرية المناورة بين القوى العظمى وبناء علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران لتعزيز الاستقرار. وللقوة الناعمة والإعلام الخليجي مثل قنوات الجزيرة، العربية، سكاي نيوز عربية دور كبير ومساند للدبلوماسية الخليجية في إحداث تأثير في الرأي العالمي، ما يعزز قوة الدبلوماسية الخليجية. كما أن دول الخليج العربية أصبحت وجهة عالمية للاستثمار في المعارض العالمية، الثقافة، والرياضة، وهذا يعزز صورة الخليج عالمياً.
عالمياً، لا توجد دبلوماسية ناجحة إلا بوجود استقرار سياسي داخلي وسياسات حكم رصينة، والحكومات الخليجية تتبع سياسات خارجية مستقرة ومرنة، وتتمتع باقتصادات قوية ومتصاعدة النمو في جميع المجالات، مما يجعلها شريكاً موثوقاً للدول الكبرى. ومع التغيرات الجيوسياسية، والتطورات الاقتصادية، والتحولات العالمية، يبدو أن الخليج سيستمر في تعزيز مكانته كقوة دبلوماسية كبرى، خاصة مع رؤية مستقبلية تجمع بين السياسة والاقتصاد والاستثمار في العلاقات الدولية. وإذا استمرت الدبلوماسية الخليجية في استغلال نقاط قوتها بحكمة، خاصة من خلال التنويع الاقتصادي وتعزيز التحالفات الدولية، سوف تُصبح قوة عظمى في مجال الدبلوماسية الدولية.