: آخر تحديث

تناقضات العلاقة الإيرانية الأميركية

6
6
7

مر على نشأة ما سُمِّي الجمهورية الإسلامية الإيرانية 45 عامًا، ومنذ وصول مؤسس نظام الملالي الخميني، بدأ كل شيء وبلحظة مشابهة يجب أن ينتهي كل شيء. هذه سنن الكون، إنها إيران الخمينية التي صعدت بسرعة البرق، ولم ينتبه لها أحد. قالت: "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"، لكن لم تمت أميركا، ولم تمت إسرائيل، ولم تمت إيران أيضًا.

وفي وسط هذا المشهد استعرت حرب طاحنة بين طهران وواشنطن انطلقت منذ سنوات ولم تتوقف حتى اليوم. قد يتساءل أحدهم: عن أي حرب تتحدث؟ وهذا سؤال مشروع، فلا إيران واجهت أميركا، ولا واشنطن أطلقت صواريخها تجاه طهران. لكن حربهما تدور رحاها في بلدان عدة: في سورية والعراق ولبنان واليمن وصولًا إلى غزة التي تحولت إلى كتلة من الدمار.

ولنفكك هذا اللغز الذي حيّر الكثيرين لا بدَّ من العودة إلى بدايات صعود إيران، ومن ثم نفكك لغز تلك الحرب التي اشتعلت دون نيران. البداية كانت عند نزول الخميني على أرض مطار طهران عام 1979 من طائرة تتبع الخطوط الجوية الفرنسية، ليُعلن سقوط نظام الشاه إلى الأبد، وليكشر بعدها الخميني عن أنيابه، ويعلن نياته بالسيطرة على الشرق الأوسط معتمدًا على المفاعل النووي وكمية من اليورانيوم المخصب الذي ورثه عن الشاه، هدية من واشنطن في وقت سابق.

وسارع الخميني إلى إطلاق مذهبية الدولة علنًا، عندما كتب في دستور الجمهورية الجديدة أن مذهب الدولة، وليس دينها، هو المذهب الشيعي الاثنا عشري. بناءً على أحد مبادئ ذلك الدستور، الذي ينص على تصدير الثورة الإسلامية الشيعية إلى خارج البلاد، اشتعلت حرب على العراق، البوابة الشرقية للأمة العربية. وبالرغم من أنَّ إيران لم تكسب الحرب ولم تخسرها، إلا أنها خرجت منها بالكثير من المكاسب، فقد ارتفع سقف طموح القائد السني في العراق فغزا الكويت بعد سنوات قليلة، وحشد العالم كله لإسقاطه، فسقط صدام عام 2003.

ومن هنا بدأت خيوط إيران تتحرك، فاخترقت المجتمع العراقي الشيعي بقوة، وباتت تسيطر على القرار العسكري والسياسي والاجتماعي في بلاد الرافدين. في سورية، لم تواجه أي مشكلة مع نظام علوي يميل إليها بكل الحالات، فدخلت سورية بالقوة الناعمة. وعندما ثار الشعب السوري تدخلت عسكريًا حتى باتت تسيطر على مفاصل الدولة السورية المنهارة.

أما في لبنان فكانت الطريقة مختلفة قليلًا. منذ عام 1982، أسست هناك ميليشيا حزب الله اللبناني، التي سرعان ما تغلغلت في كل مفاصل الدولة اللبنانية فأصبحت بيروت تحت تأثير طهران المباشر. وفي اليمن، أسست إيران ميليشيا أنصار الله الحوثي عام 1992، الذي استغل ثورة الشعب اليمني على حكامه ليدخلوا صنعاء، ويسيطروا على أجزاء كبيرة من اليمن. ولم تكتف إيران بأربع عواصم عربية، فمدت يدها إلى غزة لتدعم بعض الفصائل الفلسطينية التي باتت تحركها ضد إسرائيل كما تشاء.

كل هذه اللعبة الكبيرة التي حاكتها طهران قالت إنها لمواجهة التمدد الأميركي الصهيوني في المنطقة، حيث بدت متحكمة بخمس جبهات مشتعلة بعيدة عن أراضيها التي لا تمسها النار، ولا حتى الماء من أميركا وحلفائها، وفي الوقت نفسه تطور مشروعها النووي دون أن يزعجها أحد، وتفتت العالم العربي عبر الخطابات المذهبية والمخدرات وغيرها، وفي الوقت نفسه تحصل على ما تريد عندما تجلس إلى طاولة المفاوضات مع أميركا.

ومن هنا علينا أن نعرف كيف واجهت أميركا نظام الملالي ولماذا لم تسقطه من البداية. يمكن أن نقول إن وصول الخميني إلى الحكم جاء في فترة كانت أميركا منشغلة بقطب العالم الآخر، الاتحاد السوفييتي، الذي كان يشكل خطرًا على أميركا حسب قناعات الأميركيين أنفسهم. لم يكن يعنيهم إلى حد بعيد إنشاء نظام إسلامي في المنطقة، فخطر تلك الأنظمة لا يضاهي خطر النظام الشيوعي في موسكو آنذاك. كانت أميركا تعمل في الخطوط الخلفية إذ تبنت خطابًا داعمًا قليلًا للعراق، حيث صنفت عام 1984 إيران كدولة راعية للإرهاب، وفرضت عليها حصارًا دوليًا، ومنعت الجميع من بيعها السلاح.

وفي الوقت نفسه، لم ترد أميركا مواجهة إيران إلى أن جاءت فضيحة “إيران غيت” التي باعت بموجبها حكومة الرئيس رونالد ريغان أسلحة إلى إيران مقابل التوسط في إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في لبنان. شكلت هذه الفضيحة ضربة للإدارة الأميركية التي كانت تجاهر بعدائها لإيران، وفي الوقت نفسه تزودها بالأسلحة.

إقرأ أيضاً: هكذا سقط جيش الأسد

بعد مجيء إدارة جديدة للولايات المتحدة الأميركية وانتهاء الحرب العراقية الإيرانية، أعلنت أميركا أنها لن تسمح لإيران أن تهدد المنطقة من جديد. ومع تزايد قناعة واشنطن بأن جيش إيران بات ضعيفًا بعد حربه مع العراق ولن يشكل بعد اليوم خطرًا على العالم، فاجأت إيران الجميع في تلك الفترة بتشكيلها فيلق القدس الذي خُصص للعمليات خارج إيران، وسيطرت أذرعه تباعًا على أربع عواصم عربية.

وبالرغم من إبقاء إيران على قوائم الدول الداعمة للإرهاب، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 صنفت أميركا إيران ضمن محور الشر الذي كان يضم العراق وكوريا الشمالية، لكن لم تؤذها أبدًا، وإنما استخدمت الوسائل الدبلوماسية للضغط عليها. وتلك الوسائل بالنسبة إلى إيران ليست عقوبة، فهي طالما كانت ماهرة في تجاوزها، خصوصًا بعد مد أذرع فيلقها في كل مكان.

غزت أميركا أفغانستان، ودخلت العراق لتسقط صدام حسين. وفي تلك الفترة استغلت إيران الفرصة فدخلت العراق في كل مكان، وسيطرت على أول عاصمة عربية في طريقها الطويل في إشعال المنطقة. لا يمكن للأميركيين اليوم أن ينكروا أنهم كانوا سببًا في دخول إيران للعراق، وأنهم مهدوا لها الطريق كليًا عندما أسقطوا نظام صدام حسين. كان هذا الدخول تحولًا جذريًا للأبد.

إقرأ أيضاً: مستقبل الصراع في البحر الأحمر

قدم مجيء الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى الحكم طوق النجاة الأكبر لإيران، لتوصف تلك الفترة بالعصر الذهبي لإيران خارجيًا. فكّ أوباما الكثير من العقوبات المفروضة عليها مقابل أن تجلس إلى طاولة التفاوض على البرنامج النووي. كانت عملية تخفيف العقوبات سببًا في مد نفوذها أكثر في العالم العربي، مستفيدة من انطلاق الربيع العربي. وتدريجيًا، اخترقت طهران كثيرًا من دول الربيع العربي، وكان أوباما آنذاك يعد عقد اتفاق نووي مع إيران انتصارًا حقيقيًا.

وبالفعل، كان عام 2015 تحولًا حقيقيًا في العلاقات بين البلدين من خلال عقد اتفاق أُطلق عليه "خطة العمل الشاملة المشتركة" تحت غطاء أممي. فُرضت من خلال تلك الخطة قيود صارمة على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. حوّلت إيران معظم الأموال التي حررتها من البنوك الدولية إلى أذرعها في سورية ولبنان واليمن. وبالرغم من ذلك الاتفاق، استمرت العلاقة بين البلدين حذرة وغير مستقرة.

في عام 2018، تحولت العلاقة بين البلدين تحولًا دراماتيكيًا عندما قرر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من "خطة العمل المشتركة". بهذا، عاد التوتر إلى العلاقة بين البلدين ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وأُعيد فرض العقوبات على إيران من جديد، وقامت الأخيرة تدريجياً بتقليص التزاماتها النووية وفق ذلك الاتفاق، وبدأت بزيادة تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامج الصواريخ البالستية. في عام 2019، أعلنت إيران تجاوزها الحد المسموح لتخصيب اليورانيوم المنصوص عنه في الاتفاق، كما استمرت في تطوير أجهزة الطرد المركزية المتقدمة.

إقرأ أيضاً: هل ينجو الأسد من حلفائه؟

في المقابل، كثّفت واشنطن من ضغوطها الاقتصادية والعسكرية، فأطلق الرئيس دونالد ترامب حملة "الضغط الأقصى" ضد طهران، تمثلت في إعادة فرض العقوبات بأقصى درجات الصرامة التي كانت تهدف إلى تدمير اقتصاد إيران وإجبارها على تغيير سياساتها. وبالفعل، أدّت تلك العقوبات إلى أزمات اقتصادية خانقة في إيران، وردّت طهران بسلسلة من الحوادث في مياه الخليج عبر ذراعها الحوثي، ما زاد من حدة التوتر بين إيران وواشنطن وحلفائها في المنطقة.

من هنا، اتضح لأميركا أنَّ إيران باتت قوة لا يمكن أن تهاجمها مباشرة، فهي تدعم عشرات الميليشيات في المنطقة، وأي هجوم لا يمكن أن يُنسب إليها. لكن ترامب كان لديه فكرة مرعبة تنص على اقتلاع المسبّب الرئيسي في توسع إيران خارجياً، وكانت البداية قتل قاسم سليماني، الرجل الذي يمتلك مفاتيح القوة في فيلق القدس والمخطط الرئيسي لكافة العمليات العسكرية في الشرق الأوسط من خلال التحكم بالميليشيات الإيرانية المسلحة خارج إيران. وبذات الوقت، لم يطلق سليماني رصاصة واحدة داخل إيران.

بهذا، نجح ترامب في كبح جماح طهران الذي تعاظم في عهد أوباما. خَلَف الرئيس جو بايدن ترامب في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وكان له وجهة نظر مغايرة لكيفية التعامل مع إيران، حيث بدأ بمحاولة إحياء الاتفاق النووي. إلا أن إيران كان لها طلب رئيسي، وهو إلغاء كافة العقوبات التي فرضها ترامب عليها، بينما طالبت واشنطن بعودة إيران إلى الامتثال للشروط الصارمة في برنامجها النووي.

إقرأ أيضاً: الحرب السيبرانية الإسرائيلية على أذرع إيران

واجهت المفاوضات تعقيدات كثيرة بسبب توسع إيران في برنامجها النووي بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، كما ازدادت الأنشطة الإيرانية في المنطقة، مما عزز مخاوف واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط. ازدادت الأمور تعقيداً بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا ووقوف إيران إلى جانب موسكو. ومن ثم جاءت الحرب في غزة وإيران طرفاً فيها، وأخيراً وليس آخراً، اندلعت الحرب ضد حزب الله، أحد أذرع إيران الرئيسة في لبنان.

في الوقت نفسه، اشتعلت الضربات الصاروخية بين إيران وإسرائيل، أهم حلفاء أميركا في الشرق الأوسط، ناهيك من سيطرة إيران على القرار في بغداد وصنعاء. هذا جعل الموقف الأميركي معقداً أمام العالم لدرجة أن أميركا بدأت تقدم تنازلات لطهران من تحت الطاولة للمحافظة على الهدوء في المنطقة.

باعتقادي، هذه الاستراتيجية التي اتبعها الديموقراطيون مع إيران سيتم نسفها عند تسلم ترامب السلطة في واشنطن. ويمكن أن نرى أحداثاً دراماتيكية ساخنة قد تقضي على الأقل على أذرع إيران الخارجية وتوقف إيران عن متابعة تطوير برنامجها النووي، وقد نرى سقوط نظام الملالي إن تطور الأمر ولم تنصع إيران كلياً للمطالب الأميركية.

إقرأ أيضاً: مصر بين السلاح الأميركي والصيني

في الختام، يمكن أن نقول إنَّ العلاقة بين أميركا وإيران إذا وصفناها بأنها تندرج ضمن حالة من العداء، فهذا ليس سليماً بالمطلق. وإذا وصفناها بالخديعة، فهي ليست دقيقة. برأيي، تلك العلاقة أقرب لأن تكون علاقة مصلحة، فأميركا سمحت بسقوط الشاه مقابل ألا تذهب إيران باتجاه الشيوعية، ثم دعمتها سراً لتقاتل صدام حسين مقابل أن تقضي على حكومة يسارية قربها. ومن ثم أسقطت لها الرجل الذي أنهك جيشها، وبالتدرج فتحت لها المجال كله لتجلس مع الكبار على طاولة التفاوض، وهي لا تملك أي مقومات للجلوس مع كبار هذا الكوكب.

ذلك كله مقابل أن تبقى منطقة الشرق الأوسط في حالة من الاضطراب. فإيران، كما قال عنها ترامب، "لم تربح حرباً، ولكنها لم تخسر أيّ مفاوضات". وهذا ما يفسر العقلية الأميركية والتعامل معها، فهم يعلمون أن إيران لن تواجههم مباشرة، وإنما ستواجههم من خلال ميليشياتها لتضرب هنا وهناك. ومن الواضح أن أميركا وإيران تلعبان تمارسان لعبة القط والفأر، حيث تعبثان في المنطقة، وتدمران دولاً وتهجران شعوباً. لكن في الواقع، لا تتقاتلان في أراضيهما ولا بين شعوبهما، والخاسر الأكبر هي الدول العربية وشعوب المنطقة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف