عبده الأسمري
كتبت أكثر من مرة عن مثالية «النقد» وعقلانية «الانتقاد» من منظور أدبي وتحت مجهر «معرفي»، ووجهت الإدانة المبنية على دلائل لكل قادم على «أجنحة» الشخصنة ولا يحمل في تاريخه ما يكفل له أسبقية «الرأي» ويمنح له أحقية «الرؤية».
وفيما يخص «الرواية» بشكل احترافي فإنها من أسمى «الفنون الأدبية» وأكثرها ارتباطاً بالجودة المستديمة وأعلاها اقتراناً بالإجادة الدائمة، ولا تقبل «الخروج» من دوائر «الأصول الثقافية» إلى ساحات «العشوائية الذاتية»؛ لذا يبقى «الروائيون الحقيقيون» في دفاع مستميت عن ساحاتهم المسيجة بأسوار الاحترافية.
من باب تجربة شخصية من خلال تأليفي لروايتين لم تريا النور بعد حتى تنضجا وتخرجا للمتلقي في جلباب «رصين» وفي هيئة «إبداعية»، فقد آثرت أن أخضعهما لعامل الزمن، وأن أرتب مواعيدهما على «بوابات» الحياة وأن أسخر حركة الشخصيات فيهما لنفع «المتلقي» وأن تكونا صالحتين لأكثر «الشرائح العمرية»، بعيداً عن التخصيص وبمنأى عن الخيال «المجحف» الذي يجعل القارئ في «دوامة» من الفهم و»متاهة» في الذائقة.
شاهدنا الأسبوع الماضي ما دار بين الأديب الدكتور سعد البازعي وبين الروائي أسامة المسلم، ورأينا الانقسام المخجل في الآراء التي تحولت إلى مؤيدة ومعارضة وتائهة بين الاثنين، وعدت بالذاكرة إلى مقالات سابقة تحدثت فيها عن التفريق بين تشخيص «الأخطاء» وشخصنة «النقد»، وأكدت خلالها على الفرق الكبير بين «الآراء النقدية» و«الأهواء الشخصية» وما بين النقد الموضوعي ووجهات النظر.
أحمل للشخصيتين التقدير والاحترام وأعرف إنتاجهما جيداً، واتخذت موقف «الحياد»، وهو عنوان هذه «الزاوية الأسبوعية» التي أكتب فيها منذ عام 2016 في هذه الصحيفة «المحايدة» والرائدة في دعم الأدباء والمثقفين، ولكني وجدت أن تعدد «الآراء» وانقسام النقاد والمتابعين قد تسبب في اتساع «الفجوة» بين الرأي والرأي الآخر، وابتعاد الالتقاء بين الأدب الجاد وبين مشهد «الفنتازيا» المفتوح.
ومن خلال متابعتي للكثير من «الروايات» السعودية الصادرة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة إذا ما استثنينا أسماء الروائيين المعروفين وبعض الإنتاج المتجدد للجدد، فقد لمست أن بعضها قد سقط في «متاهات» الحكايات والمرويات التي تتخذ في مجملها مفهوم «السرد» القصصي، ولا أعلم كيف لدور النشر أن تطبع بعضها، والأدهى والأمر أن بعض الروائيين قد حشدوا لها صفوف «المتابعين» ومنصات «التوقيع» بعد أن خرجت معجونة من المطابع مقابل أجور «الطبع» ورعونة «الإصدار».
لقد تمنيت ولا زلت أن يتم جمع الدكتور البازعي والروائي المسلم على «طاولة واحدة» مع وجود آخرين يتم انتقاؤهم بعناية وبحيادية تامة ليكونوا «محكمين»؛ لأننا في حاجة إلى جمع الآراء بعيداً عن شخصنتها والاستعجال في الحكم عليها بالتضاد والتراشق، وأنا على يقين أنهما سيلتقيان في نقطة واحدة بعيداً عن الشد والجذب والخروج من «مساحة» الموضوعية.
ما لا يعلمه «البعض» أن هنالك من ألف كتاباً عبارة عن سوالفه مع أصدقائه في الاستراحة وصفت «طوابير المراهقين» لاقتنائه ليس تذوقاً للإنتاج ولكن ارتباطاً بيوميات «المؤلف الجهبذ «! في تطبيق السناب شات مع وجود دوافع «حب الاستطلاع» لدى هذه الفئة للمغامرة في اقتناء «اللافت» و»الغريب»!
ومن رؤية «محايدة» فإن اشتهار الأعمال لا يعني جودتها خصوصاً إذا ما اقترنت المسألة «بديهياً» بنوعية «الجمهور»، وهنالك فرق بين «الإنتاج» الخاص وبين «الفن الروائي» الذي ينهجه الكثير منذ عقود طويلة مثل الفانتازيا التي خرج من بواباتها «روائيون» مميزون رغم السقطات التي يقع فيها هذا النوع؛ لاعتماده على «خطوط» خيالية وقصص عوالم الجن واحتوائها على المخيف والمخفي.
ما أود أن أؤكد عليه أن «الرواية» التي لا تجمع أدوات «الأدب» ومنهجيات «الكتابة» لا تعدو كونها «سوالف» عابرة أو «حكايات» خاصة انتقلت من «الكشكول الخاص» ومن «الفضفضة الشخصية» لتدخل في «طحن وعجن ومزج» حتى تتلبس مسمى «الرواية»، بغض النظر عن الاعتراف والتقدير التامين للروايات الفانتازية والبوليسية التي تجذب صنفاً معيناً من «القراء»، ويتاح للرواي فيها ما لا يتاح لغيره في الأدب الحقيقي من حبكة وتشويق مبني على «وقائع» تتماشي مع خطوط الزمان ومدارات الحياة.
ختاماً.. كم نحن بحاجة إلى «عقلانية» النقد التي تفرق بين وجهة نظر شخصية مغلفة بغضب «مسبق» أو ردة فعل «لاحقة» وما بين موضوعية تعزل «الإنتاج الشخصي» عن «النوع الروائي».