في أجواء من الحرية يعزف السوريون اليومَ موسيقاهم كما يريدون، لا كما يريد الحاكم الفارّ. يعزفون بقوة وفرح وعفوية وخوف وحقد ونشاز. يختلفون على كل شيء، ويبقى ما يسِمُهم النشاطُ والتوثّب والاندفاع. المراقبُ الخارجيّ لا يستوعب هذه الحيوية الفوّارة الوليدة. تتجه أنظاره إلى بقع صغيرة على مسرح الأحداث يسلّط الضوء عليها، وبين إيقاعات اللحظة الراهنة لشعوبٍ تنشد الحياة والعمل يجذبه الوترُ الخارج عن مكانه والعازفُ المشاكس.
منذ يوم التحرير بدأ أبناء سورية المهجّرون يطيرون إليها على أجنحة الشوق واللهفة. يتجولون بحنين عارم بين مدنهم وأحيائها العتيقة وساحاتها الشهيرة ومقاهيها الشعبية. يمرون بدمشق حتى لو كان انتماؤهم لمدينة أخرى. يلتقطون صورة في ساحة الأمويين أو عند الجامع الأموي اللذين صارا رمزا للنصر والفرح واستعادة الحياة، وبعد أن يرتووا بالعناق يسمحون لدمعات صافية أن تنسحب بحزن بالغ فوق الأماكن المدمرة التي امتدت وتغوّلت أكثر مما نقلت لهم الكاميرات.
طاقة الفرح ونبل الحزن يخلقان إنسانا يريد بقوة أن يساهم في نهضة بلاده. طاقة أمل وتفاؤل تتفتّحُ فينا نحن الذين بقينا في الوطن فرائسَ القهر والاكتئاب. تنتشلنا من بلادة حياتنا التالفة، وتضعنا وجهاً لوجه أمام الأمم الحية، ويا لها من صدمة! طاقة حب ووفاء لمن ضحّوا واستشهدوا تجعلنا نريد البلاد جميلة تليق بالفداء.
في كل مدينة وبلدة يتقاطر الشباب من الجنسين لتشكيل لجان محلية. لا خبرةَ لديهم، ولا يعرفون شيئا حول تنظيم هياكل المجتمع المدنيّ. يبدؤون بمبادرات صغيرة. يحددون المشكلات، يقترحون الحلول وآلياتها، يجمعون ما يتيسر لهم من تبرعات قليلة، ويعالجون المشكلات الأكثر إلحاحا وأقلّ كلفة، مثل تنظيف الشوارع وتشجيرها، صيانة مرافق الصرف الصحي في المدارس المتهالكة، تخصيص حافلات نقل بأجور مخفّضة لطلاب الجامعات البعيدة، الرسم على الجدران المتسخة، وغيرها كثير. يخطؤون ويتعلمون، ويستبشرون بنجاحاتهم الضئيلة. مبادرات إسعافية لا تغطي معظم الحاجات، لكنها بالنسبة لشعب حُرم أبسط حقوقه، ومُنع من أي فعل تشاركيّ جماعيّ سوى الخروج في مسيرات التأييد، فإنها أشبه بولادة عسيرة في البرية. مولود وضعته أمه دون أن يحظيا بعناية طبية. قطعت حبل المشيمة مع ماضيه كيفما اتفق، وألقت في أذنه كلمة الأمل وأن يكبر بسرعة. إنه يحبو بنشاطٍ طفليّ محبّب خلف جوقة العازفين.
المسرح يغصّ باللاعبين وبأشباح تسرح بحرية بين الخشبة ومقاعد الفرجة. تُخرَجُ البضائع العقائديّة السياسية والدينية من مخازنها. تُنفَضُ وتُهوّى وتعرَض في أساليب جاذبة لجمهور غير متجانس. يبرزُ مفكّرون وناشطون مختلفون في مستوياتهم ومشاربهم الفكرية. تختلطُ أصوات المؤثرين في الفضاء الإلكترونيّ، وتترجّع أصداؤها في دوائر التفاعل المنتشرة على السطح.
يعقد الديموقراطيون الندوات السياسية في مقاهي المثقفين متجاوزين خلافاتهم الإيديولوجية الحادة بين اليسار والليبرالية محاولين التوافق على مفهوم (الدولة المدنية) الذي يجنّبهم صراع المصطلحات والانحياز لفئة. تشهد ملتقياتهم مناخاً متحررا من الخوف جريئا في الطرح والنقاش. متعة مشاهدة هذا الفضاء الفكري الحرّ لا يعكّرها إلا كثرة المدخنين في مقهى مغلق ومزدحم. مازال أغلبُ علمانيي سوريا اليساريين خاصة يمارسون حريتهم بشيء من الصلافة والإحساس بالنخبوية الذي لا يراعي الآخرين، والأملُ أنّ المناخ المفعم بالحرية سيمكّنهم في المستقبل من التخلّص من نمطية رثّة للحرية ترسّبت في نفوسهم ووافقت أهواءهم في عهود الكبت الطويلة.
يتشارك علمانيو الثورة وكافة الأطراف المحسوبة على النظام المخلوع من علمانية وطائفية وموالية ومحايدة في رفضهم لأسلمة الدولة، ولا تناقضَ في هذا. عبرّوا منذ البداية عن توجّسهم من الحكومة المؤقتة الآتية من خلفية إسلامية متشددة، وتصدّوا لأيّ كلمة تثير ريبتهم منها، وما زالوا يحصون انتهاكاتها، وكثير من هذه الانتهاكات حقيقيّ ومقلق وينذر بعواقب كارثية، لكنّ بعضها أيضا مختلَق بأيد داخلية وخارجية، والغاية خلف التركيز عليها ليست دائما نزيهة.
نجحَت إدارة العمليات العسكرية بإعلانها العفوَ العامَّ في البداية في تجنّب إراقة الدماء وسحب السلاح بهدوء واحتواء غالبية الشعب حتى الموالين، لكنّ مئات الآلاف من أهالي المعتقلين والمغيبين قسريا الناجين أو الذين لم يُعرف مصيرهم إلى الآن لم يرحّبوا بالمسامحة، وما لبثت أن ظهرت انتقامات عشوائية في مؤشر خطير على السلم الأهليّ. أوضحت الحكومة المؤقتة أنّ العفو لا يشملُ من تلطخت أيديهم بدماء السوريين، فهدأت أصواتٌ، وارتفعت أخرى مناهضة أغلبها في مناطق حاضنة النظام التي لسوء حظها استجرّها بالخوف وغيره لتكون حاميته بدل أن يحميها هو كما كان يوهمها، وما زالت فلوله وحلفاؤه يقومون بالمهمة، ليسود الانفلاتُ الأمني.
في الفوضى يتخفّى اللاعبون الذين يستفزون أطراف الصراع ويضرمون النار. تغيب الأصوات العقلانية والنقد الذي يستحق الإصغاء إليه. الميّالون إلى الأسلمة المؤدلجون منهم أو البسطاء يتصدّون بحدة لأفكار الآخرين ومطالبهم، حدة تحرق آخرَ مشاعر الطمأنينة عند المختلف، وتحوّله إلى خصم وعدو جاهز لأيّ معركة. وبرأيي، أنّ المنتصرَ الذي بات يشعرُ براحة أكبر ملزمٌ باحتواء الآخرين واستيعاب مخاوفهم، والجميع مطالَبون بالبحث عن المُشترَكات بينهم بدل التكرّس لإحصاء أخطاء الآخر، وتهويلها في سباق الترندات، خاصة أنّ سوريا ما زالت في غرفة العمليات، وجرحاها في الشمال الشرقي والجنوب مفتوحان على احتمالات قاسية.
لا يمكن رسمُ مشهدٍ نهائيّ للحياة السورية، فكلّ لحظة تتغيّرُ التفاصيلُ والمشاعر والأفكار والمواقف. هي أشبه بميزان تتأرجح كفتاه باستمرار، ولا يكاد يستقرّ. على الإنترنت تتصاعد الأصوات في تنافر وتجاذب. تحتدّ وتنفرد. جملة تقدح زناد المعارك، ثم تنحسر. على الانترنت تتورّم الحناجر والأقلام. تنفلت الأشباح من كل صعيد. أهرب منها إلى الشارع. أجوب دمشقَ الخارجة من أسرها. التجار يجلسون وقت الظهيرة أمام محلاتهم يستمتعون بشرب الشاي أو القهوة في تجمّعات أليفة لم يكونوا يجرؤون عليها. بائعو الخضار الفقراء يزيّنون عروضهم بمزاج عالٍ. يتحدّثون بظرفٍ وصبر. يقولون: ادعولنا. أمضي ثملة بعبق الحياة المتفجّرة في كل ركن. يخطفني صوتُ بائعة في أواخر الثلاثين من عمرها تنادي على فاكهتها التي انخفض ثمنها وصارت في متناول الجميع: "زمان أول تحّول. زمان الكلب راح"، ثم تنعطف ضاحكة بشيء من الخجل والدلع. يقابلها المارّون بضحكات مبتهجة، ويترنّم جارها بإعادة النداء بذات الإيقاع المرح.