بعد سنتين من الضياع واليأس والفراغ، حلّت على اللبنانيين فرحة انتخاب رئيس جديد لجمهورية بلدهم، غير أنها فرحة إلى حين، والذين فرحوا كما فرح اللبنانيون، هم الإسرائيليون! لكن هؤلاء لم يعلنوا عن ذلك ولم يظهروه، لأنهم، بخلاف اللبنانيين والعرب، شُطّار وأذكياء، لا يكشفون عن نياتهم، ويتعلمون من أخطائهم وتجاربهم، ويعرفون كيف يخططون للمستقبل بصمت! لم يُنتخب القائد السابق للجيش اللبناني رئيساً من جانب شعب واحد موحد، في وطن سيد حر مستقل. أُنتخب على أساس هوية دينية، لا وطنية. انتخبه نواب طوائف، لا نواب وطن. انتخبوه لمصلحتهم الشخصية، ومصلحة النظام الذي لولاه لما صاروا نواباً في مجلس نيابي طائفي متخلف وعقيم، وهذا بالتحديد ما تريده إسرائيل للبنان. تريده قبائل دينية ضعيفة ليسهل عليها السيطرة عليه، والتحكم بسمائه، إلى أن يأتي يوم تتبدل فيه الظروف، وتحين الفرص، فتقضم أجزاء من أرضه، بذريعة أنها جزء من أرض التوراة، ومن يعش ير ...Time will tell أما سوريا في نظر إسرائيل فشأن آخر. لا شيء أثلج قلبها في الماضي أكثر من حكم الأسدين، الأسد الأكبر وشبله الأصغر، ولا شيء يُثلج قلبها اليوم، أكثر من سوريا الجولاني وأنصاره. يسعدها وجود الجولاني حاكما مطلقاً في دمشق، شريطة أن تكون سوريا ضعيفة، ليس في جعبتها الثقيل من السلاح، والجولاني "أبو محمد"، يفيدها أكثر مما يفيدها المتطبعون من العرب، فهو لن يعلن الحرب عليها ليسترد هضبة الجولان، ويعيدها إلى سوريا الوطن الأم، لأن الجولان ليست أرضاً "مقدسة"، والموت والاستشهاد في سبيل أرض حجارتها ليست مقدسة، يخالف الشريعة!! والجولاني وأنصاره، لعلم من لا يعلم، كمثل جميع العاملين تحت راية "الإسلام السياسي"، ليس في أدبياتهم كلمة "وطن"، وهم يأنفون منها ويعتبرونها منافية للدين، ومن صنع "المستعمر الكافر"، وفكرهم ليس قومياً أو وطنياً، والأمة عندهم ليست الأمة السورية، أو الأمة العربية، بل أمة الإسلام، ولا مانع عندهم من أن تجاورهم دولة يهودية، ذلك يبرر لهم إقامة دولتهم "الإسلامية"، واليهود في نظرهم أبناء عمومة، يختنون أولادهم كما يفعل المسلمون، ولا يأكلون الخنزير، ويأكلون الحلال من اللحم، ولا يؤمنون بمسيح مصلوب، ودولتهم القائمة على الشريعة تناسبهم كما تناسب إسرائيل، تريحهم من أثقال الفكر الوطني وتبعاته، ومن تبعات فكرة مقاومة إسرائيل، وهم أضعف من أن يهزموها على أي حال، ولو مضى عليهم في الحكم ألف سنة! وما يساعد الجولاني وأنصاره على قيام دولتهم الدينية، غياب ذِكر لجغرافيا اسمها فلسطين في القرآن، وفي الكتاب آيات يُفضّل الله فيها بني إسرائيل على العالمين، كما جاء في سورة "البقرة"، وفيه آية يعدهم فيها على لسان موسى بأرض مقدسة ليدخلوها، كما في سورة "المائدة"، والغلاة الجدد الذين يسَّمون أنفسهم "مسلمين" يفسرون هذه الآيات على هواهم، ويحّملونها أكثر مما تحتمل، ليبرروا التقارب بينهم وبين إسرائيل، غافلين عن حقيقة أن هذه الآيات، كانت، وفق ما جاء في الكتب، قد وجهت في الزمن الغابر لمن كانوا مؤمنين، وليس إلى صهاينة جدد، ابتدعوا خرافة اسمها الشعب اليهودي، وجاءوا من بولندا وأوكرانيا والمجر، وغيرها من بلاد الغرب، ليغتصبوا فلسطين. كذلك فإن من "الإسلام السياسي" اليوم جماعات يسمُّون أنفسهم "مسلمين"، بدأوا يظهرون على الشاشات، متسلحين بهذه الآيات، ليبرروا لإسرائيل أفعالها، وعلى لسانهم ولسان من هم من أمثالهم، تلفظ فلسطين آخر أنفاسها، وتلفظ سوريا آخر أنفاسها. القرآن يدعو المؤمنين أن يتدبروا آياته، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها، لكن الجولاني وشيعته ينظرون إلى القرآن بعين واحدة، والقران يخلو من ذكر لدولة دينية، وخلافة دينية، وليس فيه رجال دين من أي نوع، ولا بدع دينية مثل "سُنة "و"شيعة" و"علويين" ما شابه، تصنيفات دينية قبلية تخلق التباعد بين الناس، وتوجد، ويا للسخرية، مسجداً "شيعياً"، وآخر "سنياً"، القرآن يحذِّر المسلمين من الخصومات والتفرقة، كما جاء في سورة آل عمران: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم"! الجولاني مشكلة، لكنه ليس المشكلة كلها. لقد خلع الرجل العباءة وارتدى السترة المدنية وربطة العنق، لينال رضى العرب والعالم، لكن بعض أنصاره على الأرض، لا يصغون إلا لسماء خاصة بهم، ولا يستجيبون إلا لشهوة الثأر والغريزة العمياء، أما قول بعض المتفائلين بأن سوريا ستشهد تحت حكم الإدارة الجديدة، نظاما مشابها للذي في تركيا، فأضغاث أحلام. تركيا، حتى تحت حكم أردوغان، علمانية بنسبة تزيد على 80 في المئة. المساجد فيها تجاور المسارح ومعاهد الموسيقى وحانات الشراب، ومؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، لا يزال يقود الدولة من قبره، ولن يزاحمه على هذه القيادة أحد، في حين ان سوريا التي كانت تحت حكم الأسدين خمسة عقود، لم تعرف المجتمع المدني، ولم تذق طعم الحرية والديموقراطية، وهذا شأن الحاكم العربي منذ قديم الزمان. وللتدليل على ذلك، أن الترجمة العربية الأصلية التي ابتدعها القدماء من العرب، لكلمة الديموقراطية اليونانية كانت الدهماوية، ومعناها "حكم الشعب"، ولم يرض الحاكم العربي بها، فتحورت الكلمة بأمره وأصبحت "الدهماء"، وصار معناها في اللغة "عامة الناس وسوادهم"، كما في معجم "لسان العرب" للعلامة ابن منظور، ومعاجم غيره من أصحاب اللغة، وها وضعنا اليوم، ومن بعد أن دخلنا القرن الواحد والعشرين، والدهماوية عندنا مرفوضة، كما كانت الحال تحت نظام طاغية دمشق السابق، أو بالشريعة الدينية، كما هي مع الجولاني وأنصاره، وهذه الشريعة في نظرهم هي كل شيء، ولا خيانة أو جريمة عندهم إذا انسلخ جبل الشيخ عن سوريا الأم، أو بقيت هضبة الجولان بيد إسرائيل، المهم أن تكون هناك قطعة من سوريا تحت سيطرتهم، وتكون الشريعة فيها أساس الحكم، وهذا لا يتم إلا بالاستقواء على من هم من غير دينهم وملتهم، وبحمد "الله" الذي تخفق قلوبهم بذكره، هو العلي الحكيم، وهو على كل شيء قدير!
كلمة عن حال سوريا ولبنان اقولها وأمشي
مواضيع ذات صلة